العدد 3901 - الأحد 12 مايو 2013م الموافق 02 رجب 1434هـ

اختلال لعبة الاقتصاد في الحياة الإنسانية

عباس المغني abbas.almughanni [at] alwasatnews.com

الدنانير والدولارات والذهب في الحقيقة لا تمثل شيئاً حالها حال الأوراق التي تلقى في سلة القمامة، ولكن قيمتها مصدرها العقل الإنساني الذي اخترعها كمحول لتحويل المنتجات من حالة إلى حالة أخرى، وعبر مر العصور طورها العقل لتصبح لعبة اقتصادية عالمية لتيسير الحياة الإنسانية.

كيف اخترعت النقود والمال والذهب؟ الإنسان لا يستطيع أن يقوم بكل شيء لتيسير حياته، فهو بطبيعته كائن يحتاج إلى الآخرين. في بدايات حياة الإنسان، لم تكن هناك نقود، وكانوا يلجأون إلى المقايضة والتبادل في السلع والعروض، مثلاً شخص لديه موز، ويريد طاولة، فإنه يبحث عن شخص آخر يمتلك طاولة، ويتفاوض معه على أن يبادله بالموز. وهذا الإجراء صعب جداً، كيف تحصل على شخص لديه طاولة، وحتى لو وجدته، ربما هو لا يريد موزاً، بل يريد سمكاً، فبرزت مشكلة كبيرة في عملية التبادل، فاخترع العقل البشري «محوّلاً» لحل المشكلة وهو المال، حيث يتم تحويل الموز إلى نقود، ومن ثم يتم تحويل النقود إلى طاولة، كما يمكن تحويل الطاولة إلى نقود، ومن ثم تحويل النقود إلى سمك. وبالتالي تسهل عملية المبادلة ولا تحتاج إلى أن تبحث عن شخص.

فالنقود في حقيقتها هي عمل وجهد بذله الإنسان، تم تعليبه في محول اسمه «نقود». وقيمة النقود ليست في ذاتها، وإنما بما تحويه من عمل وجهد بذله الإنسان، فالأصل هو الجهد والعمل.

مع تطور الحياة الإنسانية جعل الذهب محوّلاً إلى الجهد والعمل الذي يبذله الإنسان، ومع مرور الوقت تبرمجت عقول الأجيال، فأخذت تنظر إلى الذهب نظرةً على أنه كل شيء في تيسير الحياة. ولهذا نرى تأثر الناس الآن بالذهب، نتيجة البرمجة العقلية التي سارت عليها البشرية منذ عصور طويلة، مع أن الذهب في الحقيقة حاله حال أي معدن آخر، كالحديد. فالذهب قيمته في العقل البشري نتيجة البرمجة التي تبرمجت عليها البشرية.

ومع مرور الوقت تم تطوير «المحوّل» من معدن «ذهب وفضة» إلى أوراق، دنانير ودولارات وغيرها. هذا المحوّل (النقود والمال) منذ اختراعه فيه خلل، يتمثل في اختلال التوازن بين حجم السلع والخدمات التي صنعها الإنسان، وبين حجم النقود التي تتزايد تراكمياً.

للتوضيح، لإصدار دينار واحد، يجب أن يقابله إنتاج يغطيه، لنفترض أن محمداً نجارٌ، عندما يصنع كرسياً واحداً، نطبع ديناراً، فإذا صنع 100 كرسي في سنة يتم إصدار 100 دينار.

المشكلة أن الكراسي بعد 3 سنوات، ستستهلك وتنتهي، بينما النقود باقية، فإذا تلفت الـ100 كرسي، فما هو غطاء الـ 100 دينار التي صدرت من قبل وتتجول في السوق الآن؟ فالمال أو النقود تتزايد تراكمياً، بشكل أكبر من السلع والخدمات، وبالتالي يكون المال الموجود في السوق أكبر من حجم البضائع والسلع، وهو ما يؤدي إلى التضخم أو ارتفاع الأسعار.

وهذا الخلل في لعبة الاقتصاد، يؤدي إلى مخاطر كثيرة منها ضعف القدرة الشرائية لكثير من البشر، وهو ما يعني تفتتاً مستمراً في الطبقة المتوسطة التي تحرك عجلة الاقتصاد. ومن المخاطر تزايد الأموال لدى قلةٍ من البشر، ويكون المال دُولةً بين الأغنياء، بينما الغالبية العظمى من البشر تقف حسرة لا تستطيع أن تلبي احتياجاتها الأساسية مثل امتلاك السكن.

وكانت الحلول التي طبقت عملياً لعلاج الخلل هي ضرائب، زكاة، رسوم وغيرها من المفاهيم والمصطلحات والأدوات، ولكن هذه لم تصمد، فطبق حل آخر، وهو تعطيل الأموال التي ليس لها غطاء، من دخول السوق، وإعادة توزيعها، بلعبة اسمها لعبة الديون، مثلاً الحكومة الأميركية تصدر سندات، وتبيعها على من لديهم فوائض أموال، وتعطيهم فوائد مغرية، وثم تأخذ هذه الأموال وتعيد توزيعها من جديد فتصل إلى المواطنين كرواتب، أو عقود مع شركات لتطوير البنية التحتية للبلد. وبذلك حجبت الحكومة الأميركية وحدها 16 تريليون دولار (والتريليون يساوي 1000 مليار)، هذا المبلغ لو لم تحجبه أميركا، ودخل في الاقتصاد فإن العملة ستنهار، وسيصبح كأس الشاي بـ100 دولار (نحو 37 ديناراً). ومع هذا الحل، وجدت أميركا نفسها في مشكلة أخرى أكثر فداحة، وهي حجم الديون الضخم، ماذا تفعل؟

الاتحاد الأوروبي وجد فرصة في جعل قبرص مختبر تجارب، فطرح دواء في ظاهره إنقاذ الدولة من الإفلاس، وفي باطنه سرقة الأغنياء، والذي تمثل في فرض ضرائب استثنائية على الودائع، وتحويل جزء من الودائع إلى أسهم في بنوك خاسرة.

تخيّل، لديك 10 ملايين دينار كودائع في البنك، وفي صباح اليوم التالي، صدر قرار حكومي مفاجئ بأخذ مليون دينار من أموالك كضريبة استثنائية، إلى جانب أخذ 6 ملايين دينار من أموالك، وإعطائك مقابلها أسهماً في بنوك خاسرة أو متهاوية، ويبقى لك 3 ملايين!

هذا الحل طُبّق في قبرص، والآن يتم دراسة النتائج والعواقب، وعندما تستخلص النتائج، لا نعلم هل سيتخذ العالم قراراً بجعل الأغنياء الذين يمتلكون الملايين والمليارات، أكبر أضحوكة في التاريخ البشري.

هذه الحلول معالجة للخطأ بخطأ أكثر فداحة، وهناك حلول أفضل وأسهل عند تطبيقها يكون الجميع راضياً وسعيداً بتطبيقها، وهي الحلول التي تنطلق من القواعد التي تأسست عليها اللعبة العقلية الكبرى للحياة الإنسانية.

إقرأ أيضا لـ "عباس المغني"

العدد 3901 - الأحد 12 مايو 2013م الموافق 02 رجب 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 11:18 ص

      تحذير لا تقليد

      إقتصدوا وإتحدوا ولا تسرفوا لا تعنيا الاسراف والتبذير، والله لا يحب المسرفين ولا المبذرين. نسمع بالاقتصاد الحر والرفاهية الحرة الزائدة والفائض في الميزانيات ليس حسدا من عند أنفسهم لكن يمكن تقصير في حساب الفقراء في الدول الفقيرة والمسلوبة خيراتها بإذن من ساداتها. وسادات قريش من الاقطاعيين ولا فرق بين إقطاعي وقطاع الطرق واحد يقطع الامدادت والآخر يمنع الماعون..

    • زائر 2 | 11:45 م

      ابو احمد

      والله انك عبقري في توصيل الافكار
      سوف احتفظ بمقالاتك كلها فأني اتلذذ في قرائتها

    • زائر 1 | 10:31 م

      مفكر عميق

      بمرور الزمن و قرائتى لمقالات الكاتب تكون لدى تقدير عظيم له. فهو من المفكرين. أى يفكر بطريقة مغير للتيار العام. أشخاص من هذا النوع هم الذين يغذون المجتمع بقدرات التغيير. أتمنى أن يقرأ المقال الكثير من القراء. بخصوص إختراع النقود، أضيف بأنه مر بمراحل. كان يسلم الى كل مزارع مقابل كيس من قمحه أو شعيره قطع من المعدن كرصيد. بمرور الزمن استعمل الرصيد للحصول على بضاعة أخرى و تحول الى النقود المعدنية ثم الى الأوراق النقدية. كلها لأجل إستغلال البشر و سلب طاقاتهم و ممتلكاتهم بواسطة من يصدر النقود.

اقرأ ايضاً