العدد 3906 - الجمعة 17 مايو 2013م الموافق 07 رجب 1434هـ

كانوا يحلمون

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

تابعتُ برنامجاً وثائقياً شيّقاً في «قناة التاريخ» يستعرض تاريخ الإنسان والحضارات منذ بدء الخليقة وحتى وقت قريب. ولفتت انتباهي الحلقة التي تتحدث عن حياة القائد المنغولي «جنكيزخان»، الذي على الرغم من أنه كان دموياً وقاسياً ومجرماً؛ أباد شعوباً وانتهك أعراضاً، إلا أنه حقق لأمّته في خمسة وعشرين عاماً ما لم تحققه الإمبراطورية الرومانية خلال أربعة قرون؛ فوسع دولته ووطدها بشكل يعجز المرء عن وصفه.

ولا يهمنا في هذا السياق فداحة جرائمه، فلاريب أنه كان أحد طغاة التاريخ، إلا أنه لاريب أيضاً كانت له إنجازات كثيرة، خصوصاً أنه ظهر من تحت رماد المجتمع حتى قاد العالم. فلقد كانت حياته قاسيةً بعد مقتل والده على يد التتار، فتشرّد مع أسرته وأُسر واستُعبِد واضطهِد، وكان الأولى به أن يموت منسياً لا يعرفه أحد. إلا أن إصراره كان أكبر من مصيره، فكتب تاريخه بنفسه.

ولقد نجح لثلاثة أسباب رئيسة، حاله في ذلك كحال كثير من الذين غيّروا مسار الأيام: الأول أنه كان يحمل حلمه معه أينما ذهب؛ فيتأقلم مع الظروف سعياً لتحقيقه. والثاني أنه كان مؤمناً بأنه سيصل إلى هدفه؛ ولذلك لم يكفّ عن المحاولة. والثالث أنه استغل ظروف عصره وفهم أدواته ووظّفها بالطريقة الصحيحة؛ فلقد اهتم بالخيول كثيراً حتى اشتهر المغول بها، وأتقنوا تدريبها وصارت سلاحهم الأكثر فتكاً في حروبهم التوسعية، حتى قيل بأنه يصعب التفريق في المعارك بين المغولي وبين حصانه؛ فكلاهما يصيران كتلة واحدة.

ثم استوقفتني في المسلسل قصة المخترع الألماني «يوهان غوتنبرغ»، الذي قضى أكثر من عشر سنوات في تطوير الآلة الطابعة، واستطاع بذلك أن يغيّر مجرى التاريخ أيضاً. فلقد كان نسخ الكتب آنذاك يستغرق وقتاً طويلاً؛ فكتابة نسخة واحدة من الإنجيل كانت تأخذ ثلاث سنوات. فتصوّروا كيف استطاع اختراعٌ واحدٌ أن يدفع بالبشرية إلى عالم المعرفة بسرعة هائلة، نتج عنها حركة معرفية عظيمة عُرفت بـ «عصرالنهضة».

إن لكل عصر متغيرات حضارية، وحاجات كونية، لا يفهمها إلا أناس قليلون؛ هم الحالمون الذين يُدركون بأن لديهم فرصةً لإحداث فرق في حياتهم وحياة أممهم وشعوبهم. وأهم ما يُميّز هؤلاء البارزين في سجّل التاريخ أنهم قادرون على الإيمان المُطلَق بأحلامهم رغم تثبيط الناس لهم، ورغم وقوف العالم ضدهم وسخريته منهم. هل تعتقدون أن جنكيزخان، الفتى المُشرّد الفقير، وغوتنبرغ، الحداد البسيط، كانا محط إعجاب الناس أثناء مطاردتهما لحلمها؟ هل تتخيلون الآن كم حاربهما الناس، وكم سفّهوا بأحلامهما؟ لم تكن الظروف مواتية، ولكن إصرارهما كان أكبر من ملاءمة الأوضاع ومناسبتها. ولم ينتظرا الفرصة المناسبة لتتأتى لهما، بل صنعا فرصهما بأنفسهما.

كل الإنجازات العالمية، والإمبراطوريات، والحضارات، والقصص التي تلهمنا اليوم؛ عبارة عن أحلام فردية آمن بها أصحابها وأصروا على ملاحقتها وبالتالي تحقيقها. أعرف بأن هناك من سيقول بأن هذا الكلام مثالي، وقد يخطر لك هذا الخاطر الآن وأنت تقرأ المقال، ولكن تأكد بأن إنصاتك لهذه المثبطات هو ما قد يجعلك تعيش وتموت عادياً، لا قيمة لك تذكر.

إن أكثر ما يضحك في مخاوفنا أن معظمها لا تتحقق، لأنها كالزنزانة الافتراضية التي نسكن فيها، ويا للغرابة، نكون نحن سجانيها. وإذا كان سفّاحٌ كجنكيزخان قادراً على الإيمان بحلمه وتحقيقه، فالأولى بمن يحملون رسائل التسامح والمحبة أن يصروا على إنجاز طموحاتهم!

قال لي أحد المسئولين مرةً إن سر نجاحه في الحياة أنه لم يسمح يوماً لفكرة سلبية أن تسيطر على تفكيره، وأن لديه قدرةً هائلةً على التركيز؛ فاستطاع بذلك أن يتجاوز المُثبّطين ويتغلب على وساوس الحياة.

الحالمون لا يشكّون بأنفسهم ولا يقللون من شأنها، لأنهم يعرفون ما يريدون، ويستثمرون في أنفسهم وفي أحلامهم حتى يتمكنوا من كليهما. إنهم شعلةٌ من اليقين والإيمان بقدرتهم على التغيير. نجحوا وانتصروا ليس لأنهم تمنّوا النجاح، ولكن لأنهم كانوا يحلمون به في النوم واليقظة. الفرق بين الأمنيات والأحلام، أن الأمنيات تدفعنا للنوم، أما الأحلام فتدفعنا للعمل.

لا يضر المرء أن يبحث عمّا يُميزّه عن الآخرين، فتجده يتنقل في بداية حياته بين التخصصات والوظائف والحرف، ولكن عليه في لحظةٍ ما أن يدرك ماذا يريد، وماذا يُحسِن؛ وتلك هي اللحظة التاريخية في حياة كلٍّ منا، فعندها فقط تبدأ حياته الحقيقية.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3906 - الجمعة 17 مايو 2013م الموافق 07 رجب 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 3:51 ص

      جري الوحوش غير رزقك ما تحوش مقدر ومكتوب

      لم يخلق الله الناس عبثا ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عمل. فما شاء الله لا ما شاء الناس حقيقة مطلقه لا تقبل الشك ولا الضن ولا التأويل. الفرق بين مربع وآخر ليس كما الفرق بين الحلم والرؤيا والأمنية والأمل. الحياة ضيق لو لا فسحة الأمل، بينما الحياة ليست بالأماني ولا تؤخذ غلابا. حلم الناس على بعض ليس كما الاحلام ولا الرؤيا حلمه. فقد تحلم بأنك ستطير فتقطع تذكرة وتستقل طائرة، تحلم العروس بليلة الزفاف، لكن نم يتحقق شيء بدون عقد زواج بين شاب وبنت بالحلال والقسمة والنصيب هنا تظهر القدرة الإلهية والقدر لم يغيب

    • زائر 4 | 3:50 ص

      سالك

      شكرا لك استاذي دائما مقالاتك ترفع المعنويات

    • زائر 3 | 3:38 ص

      الموت هي الحقيقة الوحيدة المؤكدة والتي يتساوى عندها الناجحين والفاشلين !

      الكلام النظري جميل ولكن الله مقسم الأرزاق ومقسم العلل والأمراض وليس يوجد انسان بكرة التميز والنجاح ولكنها اسباب تتوفر للبعض وتمتنع عن البعض لحكمة لا يعرفها الا خالق الكون

    • زائر 2 | 2:53 ص

      مقال رائع

      مقال رائع وراقي. ينم عن فكر نظيف

    • زائر 1 | 11:09 م

      أحسنت

      أحسنت أحسنت و أحسنت فشكرا لك.

اقرأ ايضاً