العدد 3965 - الإثنين 15 يوليو 2013م الموافق 06 رمضان 1434هـ

وجوه في ذاكرة الوطن

محمد حميد السلمان comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ذات يوم من أيام الشهر الفضيل في زمان ليس ببعيد كثيراً عنا، يحكي بعض أهالي القرية، أن أحد تجار اللؤلؤ البحرينيين من طائفة أهل السنة الكريمة، تعرض لأزمة مالية حادة كادت تفقده مكانته في السوق وتضعه على حافة الإفلاس. لجأ إلى أصدقائه ومعارفه يسألهم الحل والعون، فقال له أحدهم، لا أحد يستطيع مساعدتك سوى رجل واحد يسكن قرية سنابس. فقرّر أن يقصد ذلك الرجل لأنه كان يعرفه حق المعرفة، وهو أيضاً من أكابر تجار اللؤلؤ في البحرين آنذاك. وما أن أصبح الصباح حتى مشى له وعرض عليه مشكلته المالية، فابتسم في وجهه وقال له أبشر، تعال بعد صلاة العشاء وستجد ما طلبت. ووفى رجل سنابس بوعده لزميله التاجر، فشكره قائلاً: أشهد أنك رجل صالح وذو إيمان عميق. ولم يجانب ذاك التاجر الحقيقة في شيء، فأهل القرية من كبار السن يذكر بعضهم أن آباءهم ذكروا لهم، أن الناس كانوا يستيقظون على صوته أثناء الليل وهو يرتل القرآن في الحسينية وهو يبكي، وعلى صوته ذاك ينهض من يريد أداء صلاة الليل.

لكن ما مناسبة هذه الحكاية التي وقعت في قرية سنابس من قرى البحرين في الماضي؟ عفواً، ليس مناسبتها لأننا في الشهر الكريم حيث تجتمع العائلات البحرينية على مائدة واحدة ويتحدثون بقلب واحد ويتدارسون القرآن، فليس هذا هو مدعاة التذكير بتلك الوجوه الطيبة والعظيمة من رجالات ذاك الزمان، ولكنها اللحظات التي يجب أن نقف فيها أمام رجال أعطوا بكل صدق ووفاء لشعب ولتراب وتاريخ هذا الوطن الكثير دون النظر لعرق أو مذهب أو توجه سياسي أو فكري مخالف أو موافق.

ومن رجال الزمن الجميل الذين بقيت وجوههم محفوظة في ذاكرة الوطن، الحاج أحمد بن علي بن خميس، أسطورة السنابس والبحرين، وحكايات التاريخ الموثقة شاهد على ذلك. رجلٌ عاش من أجل أمته لا من أجل نفسه وعائلته. رجلٌ ترك آثاراً اقتصادية، اجتماعية، دينية، تربوية، سياسية، وطنية، وخيرية، في كل مكان من هذه الأرض الطيبة وبين ثنايا تاريخ الوطن. حتى أن بلجريف في حادثة وقعت لبن خميس مع أحد المتنفذين الذين سعوا لسلبه حقوقه في تجارة اللؤلؤ حينها فرفض ذلك الظلم بكل ما أوتي من إرادة، وتقدّم بشكوى بذلك للمستشار حينها، فقرّر قبل أن يتخذ أي إجراء في الموضوع الاتصال بشهود الثقة من أهم تجار اللؤلؤ في البحرين بشأن شكوى بن خميس، وهم حجي علي الزياني، عبدالرحمن الزياني، سلمان بن مطر، عبدالعزيز القصيبي، ومعهم سيد صالح من بوري، ومحمد شريف الوادي. فوجد أنهم على علم تام بأمر طمع وجشع المتنفذين ضد تجار اللؤلؤ والطواويش، وأجمع التجار، السنة والشيعة، على أن قوانين البحرين تنص على أن الضريبة تفرض لصالح الحكومة فقط على أولئك الذين يستخرجون اللؤلؤ من البحر (أي النواخذة)، وليس على تجار البر، ولا يحق للمتنفذين فرض الضرائب دون قانون خصوصاً وهم الذين لا يعملون من أجل الرزق ولكنهم يسرقون أقوات الآخرين ولا أحد يقف أمامهم. وتم حل القضية لصالح بن خميس، وهو يعطي مع زملائه الذين شهدوا معه على الحق أمثلة مجتمع اللحمة الوطنية والتراحم، فلم يزوروا أو يخونوا الأمانة لأن زميلهم من الطائفة الأخرى، ذلك أن رجال زمان كانوا يعرفون الحق من الباطل ويخافون الله وإن لم يلبسوا عمامة الدين.

ولبن خميس موقف يوضح عبادته الصالحة تقرباً لله، في الحكاية التي تقول بأن الشيخ أحمد بن حرز خرج من مسجد سيد فلاح قاصداً منزله ذات يوم، وعندما مر بقرب حسينية بن خميس شاهد بعض الماء يخرج من الحسينية ويصب في «دالية» بن خميس المحاذية لها. وكان الشيخ بن حرز صديقاً حميماً لبن خميس، والأخير بدوره يلجأ إليه في الفتاوى الشرعية، فطلب بن حرز من أحد الرجال أن يذهب ليستدعي بن خميس، وأخبره بالأمر وقال له أن ذلك لا يجوز شرعاً لأن الماء مُلك للحسينية. ورغم أن هذه الحسينية هي لبن خميس أساساً وأنشأها من حر ماله؛ إلا أنه سأل الشيخ عن الحكم الشرعي في هذه الحالة بسبب الخطأ غير المقصود، فأجاب الشيخ بن حرز أنه يجب دفع بعض المال للحسينية، فقرّر بن خميس أن يوهب «الدالية» كلها كوقف للحسينية.

هذا وجهٌ من الوجوه البحرينية الأصيلة في ذاك الزمان يختلف عن وجوه البعض الكالحة في هذا الزمان ممن تمر عليهم الأشهر الحُرم وشهر رمضان وغيرها من شهور الله وهم مازالوا في غيهم وانحرافهم عن جادة الصواب ضد أبناء وطنهم، وكأنهم ليسوا من طين وتراب هذه الأرض التي جمعت ولم تُفرق، أعطت ولم تبُخل، صانت ولم تُفرط، حفظت الوطنية ولم تَخن الجار ولم تسلب الدار، ولم تصفّق لكل فعل غريب عن وطننا كما يحدث لفلذات أكبادنا وحرائرنا اليوم.

إنه يجب على أجيال اليوم أن تتعرف على أبناء هذه الأرض الطيبين في ذاك الزمان الذي اشتكى من عسره وضنك عيشه أصحابه؛ لكنه هو الزمن الجميل الذي يجب أن نُصرّ من خلال مجالسنا الرمضانية أن يعود، خُلقاً، بعد أن نعمل وبجد وحسن نية على طرد المتطفلين من سماء البحرين.

كان بن خميس مثلاً لرجل الحق وأصحابه من كلا الطائفتين، هم رجال الإنصاف والصدق وليس كأشباه الرجال في هذا الزمان ممن يُسلمون أصحابهم وجيرانهم عند أول وثبة ومشكلة تواجههم وينقلبون على أعقابهم.

ومن هنا نظر تجار ذاك الزمان وحتى الجهات الرسمية ومستشار الحكومة لأحمد بن خميس بإجلال وإكبار لأنه جسّد معنى مجتمع التراحم والتلاحم الذي جُبل عليه البحريني أباً عن جد دون النظر لطائفة أو لعرق أو مذهب.

إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"

العدد 3965 - الإثنين 15 يوليو 2013م الموافق 06 رمضان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 4:09 ص

      امل

      رحمه الله لفد كان والدا عطوفا

    • زائر 3 | 4:09 ص

      امل

      رحمه الله لفد كان والدا عطوفا

    • زائر 2 | 3:22 ص

      كلام صحيح

      مشاهد لن انساها + كنت طفلا وكنت اشاهد بشكل يومي تجار اللؤلؤ امثال بو حجي والساده رحمهم الله وكثيررون غيرهم يأتون الي بيت منصور العريض من كلتا الطئفتين الكريمتين . اناس شرفاء يخافون الله .بن خميس رحمه الله كان يأتي لزيارة والدي في محله بشارع التجار وكان يحضي باحترام الجميع. نرجو من الكاتب المحترم اعطءنا المزيد وشكرا

    • زائر 1 | 1:53 ص

      بلقيس

      آولئك كانوا "رجال الإنصاف"
      في مقابل "أنصاف الرجال" في هذا الزمن

اقرأ ايضاً