العدد 3978 - الأحد 28 يوليو 2013م الموافق 19 رمضان 1434هـ

«شيكاجو» والتابو الثلاثي

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

«شيكاجو» منجز إبداعي لا يقتصر مضمونه على عرض الأحداث والشخصيات، إنما النفاذ إليها سرداً وتحليلاً، فثمة فضاء تتشابك فيه المفاهيم والأفكار بما تختزنه النفوس. رحلة يكشف عبره علاء الأسواني عن الوجه الفاقع لصدام الحضارات.

الرواية من الأدب الواقعي النقدي الذي لا يدفع إلى رفض ثقافة الآخر والتنكر لها، بقدر التواصل والتفاعل معها، وهي تثير تساؤلات حادة في جسد الواقع، ثم تترك الأبواب مفتوحةً للتأويلات، فتخترق تابو «الجنس والدين والسياسة» في أدق التفاصيل التي يتجاوز فيها الأسواني الثقافة السائدة، متواصلاً مع ثقافة الآخر، على الرغم مما أثارته من سجال صاخب وانتقادات كثيرة.

تتأسس «شيكاغو» على تشابك وتفاعل أحداث متباينة وشخصيات تمثل عناصر متضادة في حراكها الزمني والمكاني من دون إطلاق أحكام قِيَمية، شخصياتها تعبّر عن الواقع الاجتماعي والسياسي الذي أنتجهم بما ينتمون إليه من ثقافة مختلفة تكاد تتناقض في سماتها مع ثقافة الآخر، لما لا وهذا الحراك في حقيقته يجسد احتراباً حضارياً لمجتمعات تتباين في بنى تكوينها المعقد، حيث الزمن يتحرك بأحداثه بين الحادي عشر من سبتمبر 2001 ارتداداً للوراء والأمام بين الماضي والحاضر.

تكشف «شيكاغو» زيف المجتمع الأميركي وقبحه على رغم مظاهر التقدم الحضاري. مجتمعٌ يمارس العنصرية ضد السود منذ شنّ حروب الإبادة التي قضى فيها ملايين الهنود الحمر بعد الاستيلاء على أراضيهم ونهب ثرواتهم باسم الدين والتدين. مجتمعٌ تنتشر فيه مظاهر التوحش الرأسمالي من فقر وبطالة وغطرسة وتفكك أسري، الأمر الذي أدى إلى شيوع شعور جمعي ينمّ عن قلق وخوف مما يحيط به. أما المجتمع المصري المقابل في الرواية، فهو يعاني من نزيف واتساع حجم الهوة بينه وبين المجتمع الأميركي... مجتمعٌ يعج بتناقضات حادة مقيدة بمنظومة أعراف وتقاليد وتشبث بالأصالة والهوية بما تحتويه من مظاهر سلبية وإيجابية.

يلتقط علاء الأسواني تفاصيل الحياة اليومية بدقة في هذين المجتمعين عبر اختيار شخصيات تمثل نماذج حية لما تنتجه ثقافة المجتمع وصراعاته السياسية والاجتماعية كيفما اختلفت عليه أو تناقضت معه، فها هو «جون جراهام» البروفسور الأميركي الثوري القديم ذو الشخصية العقلانية المتعالية عن الماديات، والنزيه في مهنته والصادق في تعامله مع الآخرين، و»جيف» الفنان الأميركي الذي جسّد عنصريته ضد العرب في أسوأ صورها، فكان وحبيبته «سارة» ابنة «رأفت» نموذجاًَ للتفسّخ وضحيته بعد إدمانها على المخدرات. وتأتي «ويندي» اليهودية الأميركية لتعبّر عن تعصبها وهي تدافع عن أصولها اليهودية، متهمةً العرب والمسلمين بالسعي إلى إبادة اليهود، وثمة ما يكشف عن ثقافة الانحطاط والاستغلال الرأسمالي في نموذج شخصية «فرناندو».

الشخصيات المغتربة في النص تمثل عناصر رئيسية تعكس الاتجاهات السياسية والاجتماعية المصرية من جهة، ومن جهة أخرى تمثل التفاعل والتشابك بين ثقافتين وحضارتين متباينتين انتماءً وسلوكاً، بما تحمله تلك الشخصيات من مشاكل وطقوس يومية وبيروقراطية تعودوا عليها ليأتوا بها وهم يعيشون في سياق نمط حياة جديد عليهم، بعضهم معارضٌ للنظام وآخر موالٍ له حدّ العمالة، أو سلبي خوفاً وخضوعاً، فقد برع الأسواني من خلالهم في نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر. تتكون الشخصيات من مبتعثين لدراسة الطب، وبعضهم ممن هاجر منذ سنوات طويلة وحقّق نجاحات باهرة في المهجر، بيد أنهم يعانون الاستلاب والغربة ومواجهة معضلات تتأرجح بين ماضٍ يلاحقهم وحاضرٍ يضغط عليهم، تماماً كما حدث لـ «رأفت» الذي هاجر منذ الستينيات بعد التأميم، ويعاني تناقض الثقافتين وتصادمهما الذي زاد من غربته وتوحده مع الثقافة الأميركية، و»كرم دوس»، الجراح القبطي المتفوق الذي لم يحصل على حقه في منحة تحقق حلمه ليكون جراحاً بسبب ممارسات النظام ومواليه في التمييز ضد الأقباط، هاجر وتفوق وأصبح شعور الاضطهاد يلازمه ويهيمن عليه.

وتبرز شخصية «صفوت شاكر» كما تقدم نفسها في الواقع، لواء سابق وعقيد ومستشار الخارجية «مسؤول المخابرات في السفارة بواشنطن»، يمارس التهديد والتلويح بأساليب التعذيب والترهيب، يتسم سلوكه باللاأخلاقية الفاضحة التي يشير إليها النص: «استحدث صفوت بعد استئذان رئيسه منهجاً جديداً في العمل، فبدلاً من الضرب والكهربة، كان يلقى القبض على زوجة المتهم أو أمه أو أخته إذا كان أعزب ثم يأمر جنوده فيخلعون ثياب المرأة قطعةً قطعةً حتى تصير عارية تماماً، ويبدأون العبث بجسدها أمام زوجها الذي سرعان ما ينهار ويعترف بكل ما يطلب منه» (صفحة 300)، «أجل أختك نهى طالبة السياسة والاقتصاد، البنت رقيقة ولن تتحمل ليلة واحدة من الاعتقال في أمن الدولة، الضباط هناك في منتهى السفالة، وهم يعشقون النسوان» (ص 359).

هكذا إذن تدار القبضة المحكمة لأمن الدولة في الداخل والخارج، أمّا «أحمد دنانة» رئيس اتحاد الدارسين المصريين بأميركا والعميل الأمني الواشي بزملائه، شخصية فاشلة لا علاقة لها بالعلم والمعرفة ومزوّر نتائج البحث الذي فضحه البروفسور الأميركي، ماسح أحذية رجال السلطة، مصلحي ووصولي متسلق، متلون السلوك بين مظهر التدين واستعداده لانجاز أي عمل يرضي مرؤوسيه حتى لو كان تقديم زوجته إلى «صفوت»، مقابل إلحاقه بجامعةٍ أخرى، فيما تبدو زوجته «مروة» نموذجاً للالتزام والأصالة في رفضها زواج المنفعة والاستغلال والخداع.

بالمقابل تتجلى هشاشة القيم الاجتماعية واهتزازها بما جسدته شخصية «شيماء»، طالبة الطب البسيطة المتفوقة والطموحة التي تسافر إلى أميركا للدراسة، يغمرها شعورٌ بالانتماء والرغبة في الارتباط بزميلها طالب الطب «طارق الوساوسي»، المتفوق والمزاجي المتردد، تحادثه: «اسمع يا طارق إذا كنت تعتقد أنني فتاة سهلة فأنت مخطئ، لو تكرّرت قلة أدبك هذه فلن تراني بعد ذلك» (ص 226)، لكنهما يقضيان أحياناً اليوم كله في الفراش، ينامان عاريين ملتصقين، ويستيقظان، يتناولان الطعام ويشربان الشاي، ويمارسان الحب أكثر من مرة. في البداية تعرّضت شيماء لنوبات عميقة متلاحقة من تأنيب الضمير، اضطربت صلاتها ثم انقطعت نهائياً، وطاردتها كوابيس مزعجة» (ص 343). أمّا «ناجي عبدالصمد» فهو المناضل الذي تتراوح حالته بين ماضٍ نضالي وحاضر يسوده العبث، قلق ومضطرب بمزاج بين العقلانية والتعصب، معارض للسلطة وإيمانه عميق بضرورة التغيير، والبروفسور «محمد صلاح» الذي وجدته حبيبته «زينب» قبل اغترابه رمزاً للجبن والتخاذل، وجاء انتحاره في نهاية النص كاشفاً عن جوهر تناقض ثقافتين متصادمتين.

الخلاصة... على رغم تباين الآراء حول «شيكاجو» وإنزال اللعنات على مؤلفها واتهامه بالعبث والسفسطة بالكتابة عن الجنس الذي احتل ثلثها كما قيل، إلا أن الإنصاف يقتضي القول بأنها تكشف عن طاقة أدبية هائلة نقلتها المشاهد عبر شخوصها في رسالة قال عنها «جلال أمين» بأنها «مشوقة وسلسة أصابت الهدف ونبل المعنى».

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 3978 - الأحد 28 يوليو 2013م الموافق 19 رمضان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 8:32 ص

      اختك مثلك

      أليس هذا ما يجري في بعض الدول العربية من تعذيب النساء وتعريتهن من ملابسهن رغم ان الدستور يقول انها بلدان عربية دستورها الاسلام؟؟؟؟؟

    • زائر 3 | 8:24 ص

      ريحانة

      الله يذكرك بالخير يا ريحانه. مو بس شيكاجو احنه عندنا خيرات.

    • زائر 2 | 6:45 ص

      وإن تغيرت البقعة أو الرقعة من مصر الى مصر من أمصار الدنيا فالناس - ناس

      جميل - كتب وصور حنا مينا وغيره من كتاب القصص والروايه. قد يكون مشهد وديكور مختلف بسبب الزمن أو العصر، إلا أن المضمون والجوهر والناس – الممثلين حسب الظهور كما سبق كتب عنها من سبق. وقد يكون ما كتبه كاتب فرنسي أو آخر إنجليزي أو روسي أو صيني.. لا يختلف الا الناس بيئة ومناخ ومواقف ومعاملة وتصرف كل شخص مع ألأحداث. فلم يتغير الكثير في الناس. يعن ألف ليلة وليلة وروميو وجوليته وما كتبه الحكيم الخيام شعرا بروباعياته التي حلفة أطلسيا أن لا يكون لها مثيل ولا بديل في الوزن والابداع لا عند الفرس ولا الرومان

    • زائر 1 | 2:53 ص

      جميل

      مقالك جميل جدا و شوقني لقراءة الرواية. سلمت يداك.

اقرأ ايضاً