العدد 402 - الأحد 12 أكتوبر 2003م الموافق 15 شعبان 1424هـ

أزمة سلطة في الجزائر... شبح بوضياف يلاحق الجميع

سمير صبح comments [at] alwasatnews.com

.

إذا كانت مثيرة «اللكمات السياسية» العلنية التي تسارعت في الآونة الأخيرة بين المرشحين الأبرز للانتخابات الرئاسية، أي الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة، والأمين العام لحزب جبهة التحرير، علي بن فليس، فإن ما يطبخ في الخفاء، وعلى نار هادئة، بات يقلق إلى حد كبير جميع المتعاطين لهذه اللعبة. ولا يتردد البعض منهم في الإشارة إلى إمكان لجوء مراكز القوى المتعددة في حال عدم التوصل إلى تسويات مُرضية، في الوقت المناسب، إلى العودة إلى ينابيع «ثقافة المؤامرة» التي تبرر «الشطب الجسدي» للذين يعوقونها. ما يجعل كبار المتصارعين وصغارهم يعيشون منذ الآن هواجس التصفيات بما فيها تلك التي أبعدت الرئيس الراحل محمد بوضياف عن الساحة.

«لم أعد أفهم ما الذي يريده سي عبدالعزيز بالضبط من وراء مواقفه المتغيرة بسرعة ساعة بساعة؟ هل هو مجرد تكتيك من قبله؟ أم ان الأمر هو نتيجة حال إرباك بدأت تعكس نفسها على التصرفات؟» هذا ما أسرّه أحد كبار مستشاريه، رجل القانون الرئيس السابق لمحكمة العدل الدولية بلاهاي محمد بجاوي، لأحد أصدقائه الليبيين الذي تولى على ما يبدو، نقل هذه الأسئلة إلى قادة بلاده، الذين لم يتأخروا في ايفاد العميد، عضو مجلس قيادة الثورة مصطفى الخروبي للاجتماع العاجل ببوتفليقة لفهم حقيقة ما يجري لكن المسئول الليبي عاد «بخفي حنين»، من دون أن يحصل على أية أجوبة شافية تمكن طرابلس الغرب من رسم سياساتها المستقبلية على ضوء التحولات الجزائرية.

فبين إنشائه لجنة تحقيق عن المفقودين - الذين هم بحسب وسائل الإعلام الأجنبية، ضحايا الخطف والاعتقال من قبل الجيش والأمن العسكري - وتكراره الإشادة بهذه المؤسسة، هنالك حلقة مفقودة لا يستطيع أحد غير بوتفليقة نفسه كشفها. على أية حال، فإن التصريحات التي أدلى بها خلال جولاته الأخيرة على الولايات المؤثرة في ميزان اللعبة الدائرة، تحديدا ولاية «باتنه» معقل قبيلة «آية شليح» التي ينتمي إليها خصمه المزعج، علي بن فليس، والذي دعا خلالها بحماس مفرط في خطاب سيّال، إلى حماية الجيش، «العمود الفقري للدولة الجزائرية» بحسب تعبيره، تؤكد من دون أدنى شك، تخوفه الجدي، وهو «ابن النظام» من اليسار الذي بدأ يأخذه الصراع في غير مصلحته، والذي لن يكون بالضرورة لصالح خصمه المعلن حتى اللحظة. فالنقطة التي سجلها مناصرو بن فليس بتمكنهم من عقد المؤتمر الاستثنائي للحزب، والالتفاف على الأمر القضائي الذي يمنعهم من ذلك، ما أفشل جهود «الحركة التصحيحية التي يقودها وزير الخارجية عبدالعزيز بلخادم، التي تلاها مباشرة انسحاب ما تبقى من وزراء الجبهة من حكومة أحمد أو يحيى، ومن ثم إحداث المفاجأة بعدم نقل المعركة من قبل الغالبية التابعة للحرب إلى قبة البرلمان، والتصويت، في المقابل، على مشروعات القوانين التي تقدم بها بوتفليقة منعا لقيامه بحل هذه المؤسسة التشريعية. وأخيرا لا آخرا، تسريب الوثيقة التي يثبت فيها قاضي مدينة الجزائر أن توقيعه على الأمر القضائي بمنع عقد مؤتمر الحزب الذي نشرته وزارة الداخلية التابعة لبوتفليقة هو مزور. كل هذه العناصر أدت في نهاية الأمر إلى إرباكه الظاهر حاليا. وتعتبر هذه النقاط أكثر من مؤشرات على أن المعركة بدأت تأخذ منحى يتجاوز حدود اختبار القوة، بحيث لن يكون من الآن فصاعدا «للكمات السياسية» مكانها في الصيغ المتعارف عليها في اللعبة الجزائرية. فإما أن يرضخ بوتفليقة للمطالب التي ستحدد له لاحقا، كون الممسكين بزمام المبادرة واللعبة، لم يتفقوا بعد على رسم حدودها النهائية، وإما أن «يركب رأسه»، ويختار المواجهة، مراهنا على تبدل المعطيات والظروف العالمية، مستندا إلى الفرضية القائلة: إن كل متغاضيا عنه في مطلع السبعينات، لم يعد ساري المفعول في مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة. بمعنى آخر، ان ما حصل مع محمد بوضياف بات مستبعدا كليا من الحدوث.

تؤكد مصادر جزائرية في باريس، مقربة من الجنرال المتقاعد، المستشار بقصر المراديه، العربي بلخير، مدى انزعاج بوتفليقة من استقبال رئيس الأركان، الجنرال محمد لعماري، لأحمد الطالب الابراهيمي ولرئيس الوزراء السابق مولود حمروش، عدة مرات في الأسابيع الأخيرة. كذلك من اللقاء السري الليلي الذي جمع هذا الأخير ببن فليس في منزله لأربع ساعات متتالية، رشح عنه التوصل إلى آلية لتنسيق المواقف والخطوات بين الطرفين. وكانت هذه الآلية ونتائجها قد ظهرت جليا بمساعدة التيار المؤيد لحمروش بعرقلة جهود «الحركة التصحيحية» «لإفشال المؤتمر الاستثنائي للحزب. وتعزو مراجع سياسية على علاقة وطيدة بالأمن العسكري، أن ما زاد الأمور تعقيدا بالنسبة إلى بوتفليقة، وجعله يدخل بقدميه دائرة الاستهداف الموسعة، هو «الخطوة الناقصة» التي قام بها عبر التسهيلات التي رافقت السماح، لزعيم جبهة الانقاذ الإسلامية الشيخ عباس مدني بمغادرة البلاد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، الدور الذي لعبه الرئيس عبر اصدقائه القطريين وطلبه الشخصي من الرئيس الماليزي محمد مهاتير، الذي زار الجزائر عشية مغادرة الزعيم الإسلامي، استقبال هذا الأخير في بلده وتأمين الحماية اللازمة له.

في ظل هذه التجاذبات التي أخذت الآن أبعادا يصعب معها العودة إلى الوراء في حال عدم التوصل إلى تسويات فيها غالب ومغلوب سلفا يحاول بوتفليقة تعزيز مواقعه عبر التوجه إلى الخارج، مع كل ما تحمله عمليات من هذا النوع من مخاطر تتجاوز مسألة الإبعاد السياسي لتصل إلى الإعدام السياسي.

فلم تنظر القوى الفاعلة في الجيش بعين الرضى للزيارة التي اختلقها بوتفليقة لباريس في الثالث من هذا الشهر إذ التقى الرئيس الفرنسي جاك شيراك لوضعه في الأجواء الجزائرية وطلب مساعدته في وجه الذين يمنعون مسيرة الانفتاح والتعددية والديمقراطية والذين يريدون إبقاء حال عدم الثقة قائمة بين البلدين. وقد تخلل اجتماع الرجلين، بحسب مصادر فرنسية، تقديم وعود من قبل الرئيس الجزائري بالتنسيق مع باريس في السياسات المتعلقة بشمال افريقيا وبمنطقة البحر الأبيض المتوسط، كذلك إعطاء الأولويات للشركات الفرنسية لانتزاع مشروعات مهمة في الجزائر على غرار ما هو حاصل في المغرب، ورفع الحواجز التي وضعت في العقدين السابقين أمام دخول شركتي «توتال فينا الف» و«غاز دوفرانس»، قطاع الهيدروكربورات بقوة.

لكن رد المؤسسة العسكرية التي اعتبرت «الاستقواء بالخارج» بمثابة تحدٍ لها بالدرجة الأولى، وتأليب كل من فرنسا والولايات المتحدة عليها بالدرجة الثانية، جاء بتحريك مجموعات الضغط الحليفة لها في هذين البلدين لإفهام من يهمه الأمر أن التحالف مع بوتفليقة وتياره سيكون بمثابة خطأ كبير في التقدير. كما أنها ستثبت بالملموس أنه ليس إلا مجرد «فقاعة» ستستطيع المؤسسة العسكرية تنفيسها ساعة تشاء، مذكرة بفشله في تمرير مشروع القانون المتعلق بفتح قطاع الهيدروكربورات أمام الاستثمار الأجنبي. في الاتجاه نفسه، عملت هذه المؤسسة على إنجاح زيارة وحدات حلف الناتو للجزائر نهاية الأسبوع الماضي إذ تعمد الجنرال محمد لعماري مع مساعديه، إظهار قوة وسلطة المؤسسة العسكرية خلال سلسلة الاجتماعات التي استمرت ثلاثة أيام وضمت ممثلين عسكريين للقوات في حلف شمال الأطلسي، ولاسيما من بلجيكا وألمانيا وقبرص وإيطاليا واسبانيا وتركيا.

في هذا السياق، أفادت المعلومات أن البحث تركز ليس فقط على توطيد علاقات التعاون العسكرية، بل ترقيتها إلى مستوى الحوار السياسي. وتضيف هذه المعلومات أن زيارة قائد قوات الحلفاء في أوروبا «جوزف رالستون» قبل ذلك بأسبوع، وإعلان إرساء تعاون عسكري مع الجزائر، نتج عنها رفع الولايات المتحدة الحظر على الجزائر في مجال شراء بعض الأسلحة التي بقيت لسنوات كثيرة محظورة، كمعدات طائرات الاستكشاف بالأشعة الحمراء، هي هدية للجنرال لعماري، وخصوصا أن بوتفليقة لم يتمكن طوال السنوات الماضية، على رغم زياراته المتكررة لنيويورك وواشنطن وبروكسل، تحديدا لمقر الحلف، من انتزاع رفع الحظر هذا. على ذلك، يعلق مستشار عسكري آخر في الرئاسة الجزائرية قائلا: «إن المسئولين الأميركيين يهمهم في نهاية المطاف الفريق القادر على التعاون في مجال تبادل المعلومات عن الإرهاب الذي يضمن مصالحهم الجغرا - استراتيجية في منطقة شمال افريقيا، والقادر على حسم المواقف التي تنسجم مع السياسات الأميركية، والمهم أيضا، الحفاظ على مواقعهم، المتميزة في قطاعي النفط والغاز في الجزائر كما هو حاصل منذ أكثر من عقدين. هذه العناصر مجتمعة لا يمكن لبوتفليقة أن يوفرها لاعتبارات شتى».

أخطاء وهواجس

يردد أحد السياسيين الجزائريين المخضرمين في مجالسه هذه الأيام أن الوضع في البلاد يسير باتجاه الاحتقان المتزايد نتيجة الاستفزازات التي تقوم بها جميع الأطراف من دون استثناء. ويرى هذا المسئول السابق الكبير، الذي عايش جميع المراحل منذ الاستقلال أن الخطوات التي يقوم بها بوتفليقة اليوم ليست سوى وسائل لتحسين شروطه في المفاوضات المقبلة مع الجيش قبل الوصول إلى تسوية نهائية. لكنه في الوقت نفسه يعتبر أن اللعب على وتر الخارج، الذي نصحه به شقيقه سعيد بوتفليقة، الذي بات ليس المرجع الأساسي بالنسبة إلى الرئيس عبدالعزيز في كل شاردة وواردة، بل رأس الحربة في مواجهة الخصوم. ولم يكتفِ سعيد بذلك. على ما يبدو، إذ بدأ منذ فترة بالغمز واللمز من قناة الجيش والتلميح أمام الزوار الأجانب الذين يلتقيهم بين الفينة والأخرى، بدور الأمن العسكري في تصفية المفقودين على دفعات ووقوف هذا الجهاز ورئيسه محمد مدين (توفيق) وراء منع هيئات المجتمع المدني الجزائرية، ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والعربية والأجنبية من الاطلاع على هذا الملف.

ويعتقد المسئول عينه أن هذا التصعيد، الذي تجاوز حدود اللعبة السياسية ليدخل في صلب الاتهامات الجزائرية لا يمكن أن يمر مرور الكرار من دون محاسبة في الوقت الضائع إذ يكون فيه الجميع منشغلا بوطيس المعركة الرئاسية، إذا تمكن المترشحون المعلنون حاليا من الوصول سالمين لمرحلتها الأخيرة، ويضيف هذا المسئول أنه يشعر، وخصوصا فيما إذا تدخلت جبهة الانقاذ وبعض التيارات الإسلامية الأخرى التي تناغمت مع بوتفليقة في مشروعه «للوئام الوطني» بأن الوضع يشبه التصفيات الشمولية والإعدامات السياسية تمهيدا لإعادة خلط الأوراق مجددا. في هذا السياق عن التخوف السائد حاليا، ذكرت مصادر مطلعة أنه خلال وجود سعيد بوتفليقة برفقة شقيقه الرئيس في زيارته الباريسية الأخيرة، التقى الأول بعض المقربين في جلسة خاصة انقسم فيها حديثه إلى جزأين: الأول، شتم الوزراء الذين انسحبوا أخيرا من الوزارة، واصفا إياهم بالأوغاد، وهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور من الزلزال المقبل الذي سيجرف معه جميع من يقف في وجه بوتفليقة منقذ البلاد؟ والثاني، اتسم بانفعال زائد، مشيرا فيه إلى أنهم كفريق، لن يتراجعوا أمام شيء ولا يخيفهم أحد، مضيفا: «ليعلم من يريد أن يعلم أن عبدالعزيز بوتفليقة ليس بوضياف، وأن يزيد زرهوني (وزير الداخلية) ليس قاصدي مرباح (رئيس الوزراء السابق ورئيس جهاز الأمن العسكري في عهدي بومدين والشاذلي بن جديد الذي قضى اغتيالا)، وأن هذه التجربة لن تتكرر».

على أية حال، فإن مجرد الحديث عن هذا الموضوع بهذه الطريقة. إضافة إلى تداوله في أوساط سياسية وبكثرة في هذه الأيام، دليل على تحكم هذا الهاجس بتفكير وعقلية الكثيرين من المشاركين في هذه اللعبة الخطرة. ما يشير إلى عدم استبعاد العودة إلى دوامة العنف السابقة بأشكالها الدموية إذا استمر التحدي ولم يتوصل أصحاب الحل والربط إلى تسوية. كما وأنه ليس صحيحا أن تجارب الماضي لن تتكرر نظرا إلى المعطيات الدولية الجديدة، ذلك أن خصوصية الصراع في الجزائر ليست من النوع الذي يأخذ في الحساب التحولات الخارجية. كما أنه يجب ألا ننسى حجم المصالح الموجودة في قلب هذا الصراع والذي من غير الممكن التنازل عنه ببساطة. وعند سؤال الرئيس السابق أحمد بن بله عن رأيه فيما يجري اكتفى بالقول: «الله يحفظ ويستر»...

لذلك، يلاحظ اليوم أن شبح الرئيس الراحل محمد بوضياف يلاحق الجميع من دون استثناء ويقض مضاجعهم حتى ولو أنكروا ذلك... فلهذا التشخيص صلة وأسباب

العدد 402 - الأحد 12 أكتوبر 2003م الموافق 15 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً