العدد 4081 - الجمعة 08 نوفمبر 2013م الموافق 04 محرم 1435هـ

صناعة الوهم السياسي وتكنولوجيا التخلف

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

الوجه الآخر لصناعة الوهم، هو ما استقر في الثقافة العربية، والشعر عنوانها، بما عُرف بشعر الهجاء، وهذا شائع منذ أيام الجاهلية الأولى ومستمر في جاهلية العرب المعاصرة.

فشاعر المديح لا يكتفي بمدح سيده ومولاه، بل يقدح في خصومه أيضاً. يقدح في رجولتهم وأخلاقهم وصفاتهم. ولكن أضحى هناك شعراء متخصّصون في القدح والذم وتحقير الآخرين. كان يجري التشهير بالقبيلة المناوئة والنيل من شرف نسائها ورجالها، وتطوّر الأمر لتحقير أقوام أخرى، وقوميات أخرى، وأديان ومذاهب أخرى.

وكما المديح فإن الهجاء قد تطوّر تطوراً مرعباً من قبل أجهزة إعلام الدولة والموالين من محطات فضائية وإذاعات وصحافة ووكالات أنباء ووسائط التواصل الاجتماعي الحديثة، بحيث أضحت تمثل تكنولوجيا التخلّف وليس التقدّم عندنا.

وتعمد أجهزة الدعاية للنظام العربي، إلى شيطنة الخصم سواءً كان جهة خارجية أو داخلية. بالنسبة للداخل فإن من يعمد حتى للنقد الموضوعي، فهو مشكّك، ومن يحاول نشر أخبار موضوعية فهو ناشر لأخبار كاذبة من شأنها الإضرار بسمعة الدولة وصورتها، والتي تؤدي إلى المسّ بالأمن القومي، وتؤثر سلباً على الاقتصاد، وقد تؤدي لهبوط العملة الوطنية. ومن يحاول أن يمارس حقه في العمل السياسي ولو من داخل أحزاب مرخصة في هامش ضيق، ولكن باستقلالية ولو نسبية ويرفض التبعية، فهو يسيء إلى الحريات التي منحه إياها وتكرّم بها النظام الوطني. ومن يحاول أن يمارس حقه في منظمات المجتمع المدني بشكل وطني ومهني، ولا يقبل أن يُستَخدم كواجهة، فهو يريد تفتيت المجتمع وتجزئته!

ومصيبة المنظمات أو الاتحادات العمالية أكبر، فهي إذا ما حاولت الدفاع عن مصالح منتسبيها وخصوصاً باللجوء إلى الأحزاب، فهذه خيانة عظمى، إذ أنها بذلك تثير الأحقاد والصراعات الطبقية والعرقية، وتقوّض الاقتصاد الوطني، وتسيء إلى سمعة البلاد الاستثمارية. من هنا توضع قيود ثقيلة على ممارسة الحق في الإضراب، إلى حدّ أن يصبح مستحيلاً. وحتى غرف التجارة والصناعة التي تمثل الرأسماليين وكثير منهم طفيليون وشركاء للنخب الحاكمة في البلاد العربية، فهم أيضاً تحت السيطرة والرقابة، ويتم التدخل الفظّ في انتخاباتهم وتسيير شئونهم. وآخر تجليات ذلك إلحاق غرفة تجارة وصناعة البحرين وهي أعرق غرفة تجارية خليجية أنشئت في العشرينيات وتمتعت لعقود باستقلالية نسبية، إلحاقها بوزارة التجارة والصناعة.

بالطبع لا ننسى مؤسسات ومنظمات وجمعيات المثقفين والكتاب والمحامين والأكاديميين التي من المفترض أن تكون مواقع للإبداع وتخريج المبدعين والباحثين، فقد جرى أيضاً التضييق عليها، حتى انتهت في كثير من البلدان إلى منظمات مسخ تعج بعديمي الموهبة ومدّعي المعرفة، وحاملي الألقاب الفارغة. وحتى في الرياضة، فرغم تبنى الأنظمة العربية لاستراتيجية إلهاء الشباب عن الشأن العام بالرياضة، وخصوصاً اللعبة الجماهيرية كرة القدم، والتي أنشئت من أجلها المجمّعات الرياضية، وشكّلت من أجلها الأندية والاتحادات، وصُرف عليها ببذخ لافت، فإننا فاشلون فيها ويظهر الفشل في المناسبات العالمية في جميع الألعاب، وتكشف عورتنا عندما نعقد دورات الفيفا لكرة القدم أو الاولمبياد لكافة الألعاب، سواءً كانت إقليمية أو دولية.

اثنان وعشرين دولة عربية لا تنال إلا بضع ميداليات ذهبية وفضية وبرونزية ودائما في الألعاب الفردية وليس الجماعية. أما الحلّ فهو اللجوء لشراء اللاعبين الأجانب من كافة أصقاع الأرض وتجنيسهم والإغداق عليهم. وعندما يتصدّى نقّادٌ من داخل الوسط الرياضي، لهذه الأوضاع، يجري التشهير بهم وشطبهم من لوائح الحكّام أو اللاعبين، ويُطردون من الفريق بل ويُحاكمون ويُسجنون بصفتهم متآمرين كما جرى في البحرين.

الاتحادات الرياضية والأندية الرياضة الأساسية مسيطر عليها من قبل النخبة، وهي قاعدة للوجاهة والامتيازات لعقلية المديح والهجاء المتأصلة في الثقافة العربية، تجد تجلياتها بشكل سرطاني في حياتنا اليومية، في عقيدة الدولة، في ثقافة المجتمع، وحتى في ذهنية النخب السياسية والثقافية، وتتسبب في تآكل الشخصية العربية، وتآكل الدولة العربية، وتآكل المجتمع العربي، وتؤسس للخواء الفكري وانحراف العمل السياسي وتدمير العمل المجتمعي.

عقلية المديح والهجاء، مكوِّن بنيوي في تخلفنا واحترابنا وفرقتنا وعجزنا عن تحقيق أيٍّ من أهدافنا، بدءًا بوحدة الشعب، ووحدة الوطن ووحدة الأمة، مروراً بعجزنا المزمن عن تحرير أراضينا المحتلة، وانتهاءً بعجزنا عن مواكبة العصر واللحاق بركب البشرية، رغم امتلاكنا نظرياً لكل عوامل الوحدة والتقدم والقوة.

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 4081 - الجمعة 08 نوفمبر 2013م الموافق 04 محرم 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 8:16 ص

      اامفكر الحر

      هذا رجل بحربني اصيل ومفكر فذ نتمنى من المختصين في ااوسط عمل حلقات مع الاستاذ عبدالنبي على شاكلة شاهد على العصر.

    • زائر 4 | 6:07 ص

      أين الخلل؟

      وضعت يدك على الجرح وشخصت المرض وهو سبب تخلفنا وانحدارنا على كل المستويات وأنتجت تلك الأنظمة جيل من طلبه مدارس كالببغاء وموظفين ومسؤولين ورياضيين وفنانين في كل المجالات ينتظرون التوجيهات لكي يبدعوا فماذا نتوقع من هذه الشعوب

    • زائر 3 | 3:19 ص

      العكري .. عكر صفو الفاسدين

      لا أريد أن أكيل لك المديح على طريقة الطبالين وان كنت تستحقها... أشكر ربي أن منَّ علينا بوجودك بيننا لننهل من فكرك الوطني والانساني.. ودمت لنا بصحتك وعطاء الجميل.

    • زائر 1 | 1:42 ص

      الدول

      هذا ما يحصل في الدول الدكتاتورية التي تحكم وتدار عن طريق فرد !! مقال رائع شكرًا أستاذ عبد النبي العكري

اقرأ ايضاً