العدد 4093 - الأربعاء 20 نوفمبر 2013م الموافق 16 محرم 1435هـ

«مدن الملح» التي كشفت هشاشتها الأمطار!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

لا يحتاج أحدنا أن يتأمّل وضع وواقع المدن العربية اليوم؛ ليكتشف أنها في كثير من الأحيان، محاولة فاشلة لمحاكاة مدن أقيمت قبل عقود. مدن في أمكنة وبشر لهم معادلاتهم وأولوياتهم التي لا يمكن الخروج أو التحايل عليها بأي صورة من الصور. وقبل أن تقام تلك المدن كان الإنسان في لبّ اهتمامها وعنايتها ودراستها وتخطيطها ومن ثم إقرارها، من دون إهماله أو فصله عن بيئته المحيطة. الإنسان أولاً ثم البيئة ثانياً والبناء ثالثاً!

الطفرة المالية أفسدت البشر، في جزء من العالم، وخصوصاً الجزء الذي منذ وجد إنسانه على هذه الأرض بعد اكتشاف الثروات، وهو مستهلك لكل شيء بدرجة شهوانية مقزّزة. الإنتاج في آخر همّه طالما أن الثروات تلك ستجلب له عصارة إنجاز وتفكير واختراع الآخرين. انحياز تام إلى «التنْبلة» والسذاجة والانبهار حتى للفراغ في كثير من الأحيان. أعني بالإنسان هنا في البيئات المستلبة والمختطفة والمصادِرة لكل قيمة تدل عليه وكرامة لا يعرف الإنسان من دونها. ويظل في كثير من الأحيان مُحاطاً ومحاصراً ومشدوداً إلى ضروراته تلك لأكثر من سبب، وستجد القمع والفساد من بين أسباب كثيرة تلجمه وتحدّ من إمكاناته وطاقاته وقدرته على الخلق والإبداع. انعكس ذلك على فساد يتراكم في المدن.

المدن ليست عاقلة كي تعرف معنى الإصلاح والإفساد. نعني هنا الذين يمسكون بقبضة وقرار وأنفاس تلك المدن، ويضعون القوانين التي تحصّنهم وتستهدف الآخرين. ونعني بالآخرين هنا، أولئك الذين لهم صوت يمكن أن يعلو في الفساد والخلل والتجاوز والانتهاك.

قبل أقل من أسبوع لم يحتج أحدنا إلى أن يذهب في التأمل مذهباً يحتاج إلى جهد وعميق تفكير. قبل أسبوع استطاع أحد كائنات الله (المطر) أن يعرّي هشاشة تلك المدن. المدن التي ترفع لواء التنمية والإنسان والتخطيط بعيد المدى، من الخطط الخمسية، إلى الخطط العشرية والعشرينية والثلاثينية... ولا نهاية للخطط التي لا خطط فيها أساساً!

تغرق مدن تنظر إليها من الطائرة فلا تشك أنها انتصرت على شح الموارد والثروات الطبيعية. الإنسان في لبّها (هكذا تتوهم في رؤيتك من علٍ). على الأرض كل ذلك عبارة عن قشور وكمائن. الفساد ينخر في التفاصيل، بدءاً بتخطيط الشوارع وصولاً إلى تنفيذها، وقد مرّت موازنتها بأكثر من مرحلة «ريجيم» يسمن عبره متمصلحون ولصوص وفاسدون!

المدارس هي الأخرى، الجامعات، المستشفيات، الأندية، دور العبادة، كل تلك الأمكنة لم تسلم من يد امتدّت لمخصصات إقامتها وإنشائها، وتحت عناوين عدّة ويافطات مختلفة! وكلها لا تبرح الفساد وعناوينه وتلاوينه أيضاً!

فقط ابحثوا عن الفساد. ابحثوا عن العبث. ابحثوا عمّن لا يعنيه من قريب أو بعيد مئات وآلاف البيوت والعائلات التي تتذمّر قبل هطول الأمطار، وتعاني الكارثة بكل تفاصيلها حرماناً من النوم والاستقرار والحياة كبشر حين يهطل أو يمعن في الوصول إلى مرحلة السيل والخراب. فقط لأن الإنسان خارج اهتمام من يقررون إقامة تلك المدن أو ضواحيها. البيئة هي الأخرى خارج المعادلة. الفساد هو المهيمن حتى على القشور التي تعرّيها الطبيعة طال الزمن أو قصُر!

يتحدثون كثيراً عن الابن الضال، ولكنهم لم يتحدّثوا عن المدن الضالة بفسادها ومفسديها، بالذين يتركونها تغرق في «شربة مَيّه» بحسب تعبير إخوتنا المصريين ولهجتهم المحبّبة.

كأنها «مدن الملح» التي تحدث عنها الروائي الاستثنائي الكبير عبدالرحمن منيف. تتطاول وتتمدّد وتكبر وتتسع بلا مضامين، وإن وجدت فهي مضامين من هشاشة. تظل عناوين للزائر والسائح الذي ينبهر بها مادام عابراً. حين يقيم يكتشف أنه في مدن من «ملح». وبين هذا وذاك، تهرس عظام الإنسان، وتعمل على نفيه في صور بمضامينها التي لا تُحصى، وتسحق البيئة التي لا حرمة لها مادامت حرمة الإنسان في ذمّة العدم والنفي!

والذين يتوهمون أن المدن الفاضلة بأطول برج وأعرضه، وأكبر مجمّع تجاري، وأكبر منصّة عرض، وأكبر عجلة دوّارة، يكرّسون ويعمّقون ذلك الوهم، ويذهبون بالإنسان عميقاً في غيابات الإهمال والهامش، إن كان ثمة هامش أساساً يجد فيه ذلك الإنسان موضع قدم له!

وتظل «مدن ملح» كلما استقر الفساد وصار شرعة ومنهاجاً وأسلوب حياة وطريقة علاقات وتفكير.

شوارع، مدارس، منشآت، وجدت للإنسان وبالإنسان، وحين تطل الإهانة برأسها معلنة وفاضحة لفساد أقامها على الهشاشة بعد أخذ أكثر من «الزكاة» والخُمس» ليترك للناس ما يعيق حركتهم وجعلهم عرضة للإهانة والاستباحة، لن تجد عناوين ومضامين تنطبق عليها سوى «مدن الملح» أيضاً!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4093 - الأربعاء 20 نوفمبر 2013م الموافق 16 محرم 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:39 ص

      زخات من الرحمة الالهية كشفت الانجازات

      الانجازات التي دائما يصدعون رأسنا بها هاهي ذابت مع زخّات بسيطة من المطر

اقرأ ايضاً