العدد 4146 - الأحد 12 يناير 2014م الموافق 11 ربيع الاول 1435هـ

معالي وزير العدل... هل إن مواعِظك بالأمس لا تَصلحُ لهذا الزمن؟

علي محسن الورقاء comments [at] alwasatnews.com

محامٍ بحريني

معالي وزير العدل... بعد التحية...

لا أنكِر أني تتلمذت على يديك حين كنت (معاليك) قاضياً بالمحكمة الجنائية في نهاية الألفية الثانية، وكنت (أنا) حينذاك «مُحكِّماً ومُدَّعياً عاماً» تابعاً لوزارة العمل، وقد لمستُ فيك آنذاك مراقي الرأفة والتواضع ودماثة الخلق دون أن تستظل بموقعك المكين ونسبك الرفيع. كما تعلمت منك وأنت تَعِظنا بأن القضاء العادل ليس هو العدل والقسط وحسب، إنّما هو حلمٌ ورحمةٌ وحكمةٌ ومعرفة واستقامة وأمانة. ولا أنسى حين أجْملتَ (معاليك) هذه المعاني في جملة واحدة قصيرة وهي «أن العدلَ لِينٌ وحزم».

وهذا الإقرار مني لا أقوله مجاملة ولا تَمَلُقاً ولا طمعاً في رضاك أو رهبةً منك، إنما هي حقيقة اعتز بها، ولا أطمع فيما أسعى إليه سوى رضوان الله، وغير واجفٍ إلاَّ منه سبحانه.

وعلى هذا، ونظراً لواقع مُرٍ ماحِق قد أوغر القلب وأوهن النفس، جعلني استذكر عِظاتك بالأمس وكأنها لم تبُر، بل هي بالنسبة لي لا تزال مِداداً عتيداً مُتجدِداً.

وهذا الواقع المُر الماحِق جاء على يد أحد القضاة بكل أسف. وربما أكون متجاوزاً غير آثم فأقول «شَطَط أحد القضاة». قد يكون هذا الشطط عن سهوٍ أو خطأ أو عن حِنْق ، لا أدري. وأياً ما تكن دواعي هذا الشطط فلا أفتري إن قلت «أن ليس في أبناء آدم من هو معصوم من الخطأ والشطط إلاّ من يعصمه الله»، والساذج هو من يجزم أن القضاةَ معصومون.

وقد أكون صائباً حيث أظن أنك لا تماري فيما قلته (أنا) في مقال لي نشر في صحيفة «الوسط» بتاريخ 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2013، بعنوان «هل أن القضاء العدلي دائماً نزيه ومنزّه؟». والذي انتهيت فيه إلى القول أنْ «ليس بحق أن نُعطي القاضي حصانةً تُحصِّنه من النقد والذم، أو أن نرفعه إلى منزلة الأولياء والأوصياء، وليس بحق أن ننزهه من العيب والشطط والانحراف طالما كان منحرفاً أو كان سلوكه معيباً وسيئاً وقبيحاً».

مع التنويه إلى أني لا أقصد فيما تقدم تهمة اعوجاج المنظومة أو المؤسسة القضائية، وإنما أعني قابلية وجود فرد (كبُرْعِمٍ مُعوَجٍ أو أكثر) في هذه المنظومة، وفي حالة استثنائية، وفاعل استثنائي، وفي متون قضية يتيمة، حيث لا أقر بالقدسية المطلقة والنُبل بالمطلق.

وقد وعدت في مقالي ذاك بأن أقف على القضية «الاستثنائية» بشيء من التفصيل في كلمة أو خطاب منشور. وأنه وفاءً للوعد أنشر هذا الخطاب الموجه إلى معاليك وأَسْردُ فيه هذه القضية دون ذكر اسم الفاعل «الاستثنائي» مع تَحَّمُل المسئولية أياً تكن هي، طالما أن الهدف أسمى وأعظم من المسئولية.

فهذه القضية هي الآتي: فقد أصدر أحد القضاة حكماً جنائياً غيابياً قضى بموجبه حبس متهم في دعوى جنائية مدة سنتين، وما أن عَلِم المحكوم عليه بالحكم اعترض عليه بموجب الإجراءات القانونية، وكنتُ محامي الدفاع عنه.

وفي جلسة المرافعة الأخيرة تقدمنا بمرافعة ختامية مكتوبة مشفوعة بالأدلة الثابتة على براءة المتهم (المُعارض). وحيث تهيأت الدعوى للحكم تقرر حينذاك حجزها للحكم بتاريخ لاحق (بعد 37 يوماً من تاريخ جلسة المرافعة) بقرار أصدره القاضي وأعلنه لي آنذاك بوضوح وبمسمع من المتهم الحاضر دون اعتراض من النيابة العامة آنذاك.

وفي الجلسة المحددة المفترض صدور الحكم فيها حضرت مع المتهم (المُعارض) لسماع النطق بالحكم، إلاَّ أن المفاجأة كانت صاعقة حين علِمْنا أن القاضي كان قد نظر الدعوى قبل شهر تقريباً من تاريخ الجلسة المحددة للنطق بالحكم فقضى حينذاك باعتبار المعارضة كأن لم تكن بسبب غياب المعارض. ما يعني ذلك أنه أعاد الدعوى للمرافعة واستعجلها في غضون ثمانية أيام فقط ونظرها دون علم المُعارض وفي غيابه. الأمر الذي ترتب عليه ليس فقط اعتبار المعارضة كأن لم تكن، وإنما الحكم بعدم قبول الاستئناف شكلاً. وبهذا أصبح الحكم القاضي بحبس المتهم مدة سنتين باتّاً ونهائياً.

ولما كان الأمر ذلك لجأنا إلى دائرة التفتيش القضائي، ومن ثم إلى مجلس القضاء الأعلى بطلب إجراء التحقيق في الملابسات المتصلة بالدعوى وفي مجموعة من النقاط قد أثرناها حينذاك، بيد أن هاتين الجهتين رفضتا إجراء أي تحقيق واكتفتا بالقول «أن المعوَّل عليه هو محضر الجلسة الذي جاء فيه ما يخالف زعمنا». وعليه أسدِل الستار على هذه القضية لينتهى الأمر إلى سوق المحكوم عليه ليقضي عقوبة الحبس رغم التيقن ببراءته مما نسب إليه طبقاً لأحكام القانون.

لهذا صار إلى علمنا أن محاضر الجلسات مقدسة كقدسية ألواح موسى (ع)، وأن حرمتها تعلو حرمة الإنسان، وأن المبدأ الذي تعلّمناه من معاليك بأن العدل «لِينٌ وحزم» لم يُعد صالحاً في هذا الزمن.

إني لا أماري من أن «اللين» لا يعني الاستخفاف بما يدوّنه القاضي بمحاضر الجلسات، غير أن «الحزم» واحترام القانون لا يجوز أن يكونا مدخلاً للحطِّ بكرامة الإنسان متى كان هذا الإنسان كريماً وجليلاً.

ثم أني عندما طالبت بالتحقيق فيما أشرت إليه لم أكن أذهب إلى مخالفة القانون أو عدم تطبيقه إنما لتطبيقه، ذلك لأنه لو افترضنا أن التحقيق قد تم بشفافية وموضوعية، وتأكّد أن بعضاً من النقاط التي أثرناها صادقة ولو بنسبة 50 في المئة ألا يجوز أن تكون هذه النسبة تحمل الشك في وجود خطأ ما وقع من القاضي؟ ومن المقرر قانوناً أن الشك هو لمصلحة المتهم.

وحيث أن الجهتين الإداريتين المشار إليهما اكتفتا بمحضر الجلسة الأخيرة واعتبرته حبراً مقدساً غير قابل للتشكيك فيه مهما بلغت الحجج ومهما أسفرت نتائج التحقيق، فإن ذلك على ما أظنه يتناقض مع كرامة الإنسان، ومع المبدأ القائل أن «ليس بحق أن نُعطي القاضي حصانةً تُحصِّنه من النقد والذم، أو أن نرفعه إلى منزلة الأولياء والأوصياء، وليس بحق أن ننزهه من العيب والشطط والانحراف طالما كان منحرفاً أو كان سلوكه معيباً وسيئاً وقبيحاً». كما أن ذلك يتناقض مع ما قد تعلمناه من مواعِظك بالأمس يا معالي الوزير، إلاّ إذا كانت تلك المواعظ لم تعد صالحةً لهذا الزمن.

إقرأ أيضا لـ "علي محسن الورقاء"

العدد 4146 - الأحد 12 يناير 2014م الموافق 11 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً