العدد 4149 - الأربعاء 15 يناير 2014م الموافق 14 ربيع الاول 1435هـ

لا يمْدحُ الظَلامَ إلاَّ الموْتى!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

أمَّةٌ يتفشَّى فيها المديح للخلل؛ هي أصْل الخلل. أمَّةٌ تجْهَرُ بهجائها له، لا خوف عليها ولن تحزن ولن تندم؛ لأنها مهَّدتْ -على أقل تقدير- طريق القيمة والشرف والعزَّة لأبنائها وأحفادها.

أمَّةٌ تحيا على المديح. مديح ما يسيء إلى الحياة والإنسان وحتى البيئة والأشياء، لا أثر يدل على أنها جزء من الحياة. كأنها تمارس دور الدالِّ على مزيدٍ من البؤس، ومزيدٍ من امتهان كرامة الحياة. كأنها نص ومضمون النفي. نفيها، وتوهُّم نفي الآخرين ممن ليسوا على شاكلتها.

مدَّاحو الظلام يفتحون الطريق أمام كل ما يمتُّ إليه بِصِلة، ويِشَرْعنون الأدوات التي تقتنص الضوء عند كل مفترق طريق، وفي تراكم وتناسل الأنفاق أيضاً.

يريدون لأمكنة وواقع غيرهم ألاَّ يبْرحا الأنفاق؛ وتتحوّلا إلى أرحامٍ في واقع الأمر محاصرة بالسكاكين والخناجر؛ علاوة على الليل!

الذين لا يجيدون غير مديح الظلام، كيف لهم أن يواجهوا أبناءهم وأحفادهم؟ كيف لهم أن يحفظوا ملامحهم عن ظهر روح ومشاعر وقلب؟

كيف لمادح الظلام أن يتصالح مع الضوء العابر والشحيح؛ ولو كان ضوء شمعة في مدى متلفِّع بظلام وقته؟

نسأل: كيف تتأتَّى للذين يمدحون الظلام رؤية؟ أية رؤية! كأنهم بذلك وُجدوا لممارسة الارتطام ليس بالأشياء فحسب؛ بل بالبشر الذين يجدون فيهم كائنات غريبة، تهدِّد محاولات إشاعاتهم للظلام؛ وتنصيبه مُقرِّراً للمصائر والحيوات!

***

وفي مديح الظَلام نَقمة على الحياة في صورة أو أخرى. والناقم على الحياة لا يرى ما عداه من مخلوقات مؤهلين لها. هم خارج سياقها وحدودها؛ وإن امتلأت بهم ضجيجاً وحركة وإنجازاً وفصولاً من الإبهار والإبداع.

كل ذلك يحتاج إلى عين تراه، وبصيرة تتمعَّنه، وروح تتمثّله، ونفس كبيرة تقدّره. كل ذلك سيحول الظلام بينه وبين الذين يمدحونه!

وطوال تاريخ وقفنا على شيء ولو كان يسيراً منه، وحاضر شهدنا بعض وقائعه واللحظات المفصلية فيه؛ في المكان الذي ننتمي إليه وخارج دائرته. لم نلتقِ من أصحاب المعنى والقيمة ممن مدحوا الظلام وكانوا متحدثين رسميين باسمه، ويرفعون ألويته، ويروّجون في أزمنة الناس وأمكنتهم مآثره الواهية؛ وبصيرته التي لم يشهد عليها سواهم. التقينا برميم بشر، وضباع لا تألف وتستأنس إلا بالجِيَف، تفوح منها روائح دم طري يمتدّ في الزمن، وتنبعث منها روائح مصالح ومنافع قابلة لبيع أي شيء مقابل لا شيء. فقط مقابل وهم تعيش انفصاله عن حقيقة الحياة؛ وحيوية الحضور بالمعنى الحقيقي من تلك الحياة!

أبسط الملاحظات من دون تفذْلك، الظلام لا يرى سواه. والذين هم على انسجام معه رؤيتهم في حدوده: اللارؤية. وكل إشاعة للظلام إرجاع ونكوص بالإنسان إلى حيث لا شيء يدل عليه، ولا شيء يهتدي به. ثم إنه لم يُبْتَلَ هذا الكوكب مثل بلائه بالذين ينصِّبون الظَلام طريقة مُثْلى للحياة (حياتهم). وكيف تستقيم حياة وظلام في سرْمد؟

ويظل ذلك شأن الذين اعتادوا مديح الظلام. خلق الإنسان ليصرخ في وجه العتْمة ويمارس هجاءه لها بثقة الضوء! لم يَأتِ إلى هذا العالم كي يكون على انسجامٍ مع العتْمة والظلام. لم يأتِ لكي لا يدل ولا يطل على الحياة. يكون وقتها خارج سياقها وفي الصميم من الموت؛ وفي أقل تقدير، خارج سياق الحضور اللائق بكائن خُلق هذا العالم ليكون دليلاً عليه لا العكس. والظلمة قبْر وموت كل دليل!

ثم إنه لا قيمة للضوء في أمكنة لا حسّ ولا حراك لبشر فيها. قيمته بأولئك البشر، ومعناه بذلك التواصل الفطري في العلاقة بين أن ترى وتغيّر وتخرج وتتمرد وتحتجّ على ما تراه خلاف قيمتين: قيمة أن ترى وقيمة الفعل الذي ينتج عن تلك الرؤية.

***

كل هذا الليل لا يُخيفنا. يُخيفنا أن نصبح جزءاً منه! كل هذا الليل لا يدلّنا علينا. لا يدل على شيء كي يستطيع أن يدل على أرواحنا. أرواحنا التي ليست برسْم البيع؛ وليست برسْم التخطيط؛ وليست برسْم الانتظار على الأبواب.

لا يُخيفنا الليل بقدر خوفنا من أن نصحو وقد هيمن الليل على مزاجنا ووعينا وقدرتنا في درجاتها الهرمة على تمييز الأشياء، وتحديد الفارق بين من يحاول الأخذ بك إلى الأفق والمدى المفتوح، وبين من يِصرُّ على الأخذ بك إلى حيث المدى المغلق المؤثث والمحاصر بكل ما يمكن الارتطام به، والقذف بك إلى تفاهة وقلق المجهول!

***

ولا يمدح الظلام إلا الذين يخشون أن تكشف عوراتهم، وكلهم عورات. يرون في الظلام ساتراً وما هو بساتر. هل يمكننا الحديث عن ستْر ظلام لظلام؟ لا أحد يكترث بالعدم!

وللذين يمدحون الظلام: لن نمدح سوى الضوء؛ وفي ذلك هجاء للظلام لا لبْس ولا تورية ولا مجاز يحويه. هكذا بنصّه الظاهر الذي لا يحتاج إلى تأويل وتفسير؛ تماماً كالماء والهواء والوقت والمكان والحب والكراهية والضعف والقوة والوفاء والغدر والأمانة والخيانة والثبات وكشف العورة.

***

في نهاية المطاف، لا يمدح الظلام إلا الموتى. الموتى الذين يغادرون العالم وكانوا عبئاً عليه؛ فكيف وهم مازالوا ضمن تصنيف الذين يتنفسون فحسب؟

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4149 - الأربعاء 15 يناير 2014م الموافق 14 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً