العدد 4174 - الأحد 09 فبراير 2014م الموافق 09 ربيع الثاني 1435هـ

الزندقة بالأمس... التخوين اليوم وإهدار الحياة!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في البيئات المتكافئة والسويِّة لا يحدث ذلك: التخوين. في البيئات المنصفة لأطرافها وبشرها لا تتسلَّق مجموعات باتخاذ الآخرين سُلَّماً، وجعلهم وسائل للوصول، تماماً كالذي لا تعنيه كُلفة إشعال سيجارة ولو أدّى ذلك إلى إحراق وطن لا شجرة فحسب!

الوصوليون والمتطفِّلون والطحالب موجودون في كل أمم الدنيا؛ حتى تلك التي تمكّنت من حقوقها وقوانينها الكفيلة بالمساواة بين الناس وعدم التفريق بينهم. موجودون في كل البيئات طالما وجدت حياة، وطالما وجد الخير والشر. لكننا نتحدث هنا عن بيئات لا يحيا ويطمئن المهيمنون عليها إلا بالتفريق والتمييز بين الناس. لا يستقر بعض أفرادها، ولا يؤكدون وطنيتهم وانتماءهم إلا بتخوين المغايرين، والذين يجدون فيهم حجر عثرة ومِصدَّاً يحول دون استحواذهم على أكبر قدرٍ من المنافع والغنائم.

***

أول وأبسط ما يمكن أن يطل على الناس في الأدبيات ووسائل الإعلام التي يتم احتكارها هو إشاعة ثقافة التخوين، واعتبارها لازمة من لوازم «الاستقرار» المُتوهَّم، وواجهة للزحف على كل شيء، وإدخاله ضمن الملكية الخاصة لمجموعات بشرية متطابقة في توجهاتها ونظرها وتنشيط حاسَّة التحفز لديها.

اليوم، يحلُّ مفهوم ومصطلح وإجراء التخوين محل مفهوم ومصطلح وإجراء «الزندقة» بالأمس. الفرق أن الزنديق بالأمس يرسل إلى حتفه إما قطعاً لرأسه أو جعله حصباً لنار جهنم بحيث يحرق حياً، أو يُصلب على جذع النخل. اليوم يتم حرمانه وبشكل معمّق من أبسط حقوقه كبشر، ويظل محط استهداف وترصُّد على امتداد الساعة!

ماذا يعني أن تخوِّن الشريك لك في الوطن؟ ماذا يعني أن تعمّق ذلك الإجراء مع مرور الوقت بحيث يصبح - كما تتوهم - حقيقة لا يمكن القفز عليها أو توليد حجج ونصوص لدفعها وتكذيبها؟

من الذي يملك حق التخوين بعيداً من القوانين العادلة والمنصفة والمتحققة على الأرض وفي واقع الناس؟

بات مثل ذلك الإجراء يطّلع به الذين لا يحسنون في الحياة حتى إدارة أشيائهم من دون تكليف وإملاء. هم أنفسهم اليوم من يحدّدون للناس - بالإيعاز والوكالة - الطريقة والأسلوب والنمط الذي يجب أن يحيوْنه وتدار به شئونهم!

فالذين تُسند إليهم مشاريع التخوين وإجراءاته ونصوصه تفعيلاً وبالشواهد، هم في الدرجة الأدنى من الاطلاع بالمسئوليات بمعناها الفاعل والمنتج، والعمل على تراكم الإنجاز واستتباب الحقوق بين الناس.

***

مجتمعات... أنظمة... تريد إشاعة وتأبيد مثل ذلك التقسيم في بنيتها لا يمكن أن تعرف استقراراً، ولا يمكن أن تتحصَّن جبهاتها بالاستناد إلى الذين توكل إليهم مهمة التخوين، وتوزيع صكوك الوطنية بحسب موهبة الامتثال والانصياع والركون.

ذلك لا يصنع أمةً من الأساس. يصنع رخاوةً وهشاشةً ومشاريع اضمحلال وفناء وتمزّقاً. يصنع شبح أمة تخشى من مكوناتها. والأمة التي لا تستطيع احتواء واستيعاب مكوناتها من الظلم بمكان أن يطلق عليها اسم أمة في المقام الأول، والانتساب إلى المجموع البشري في المقام الثاني.

***

وثمة اليوم من يجد شغله الشاغل، ودوره الحقيقي الذي يناسب ما هو عليه من انحراف الفطرة، وانحياز إلى كل شاذ وقميء، في ضخ أكبر قدْر من مشاريع التشرذم وتوليد حال من الاغتراب تأتي في صور شتى، وواقع لا يمكن لعين أن تعدم القدرة على تقرير اعوجاجه وتصنّعه، والأخذ به إلى أكثر من تهلكة! لكأنهم وجدوا ليتعهَّدوا الجحيم، أولئك الذين لا تنقطع محاولاتهم بأخذ أوطانهم إلى الدرك الأسفل من القلاقل والاضطراب وتمزيق اللحمة.

***

لا منتصر في مثل ذلك الجحيم. لا انتصار لمن حارب كل أفق، وسعى إلى أخذ الناس بمظانّه وشبهاته وأمراض ارتيابه وشهوة بقائه على حسابهم. الانتصار الحقيقي في الحياة لأولئك الذين يمهّدون لمزيد من استواء الحياة، ومزيد من إشاعة الحقوق والسهر عليها والوقوف على استتبابها وتحقُّقها في دنيا الناس.

وبالنظر إلى كون التخوين لازمةً تكاد لا تخلو من وطن باستحالة خلوّه من الوصوليين والمنتفعين والطحالب فيه، تعيش أوطاننا حالاً من الاغتراب شبه المؤبَّد، والمُعطّل لقدراتها والحياة كما يجب. هو اغتراب جماعي تمثله شاعر العرب الأكبر أبوالطيب المتنبي (أنا في أمةٍ تداركها اللهُ/ غريبٌ كصالحٍ في ثمود)، ضمن حاله الخاصة، ولكنه اليوم ماثل وقائم في الكثير من الشواهد والممارسات. حال اغتراب بين أمم الأرض بنماذج سوء تأخذ به على الغياب والغيبوبة والانفصال عن الفطرة وحركة الاجتماع البشري الفاعل.

***

ما يحدث اليوم هو قتل وصلب وإحراق معنوي - نفسي لمجموعات بشرية لها رؤيتها في الحياة ووعيها بالحقوق، ونظرتها المتساوية للإنسان تحت مظلة قوانين وتشريعات لا تبخس الناس أشياءهم، ولا تذروهم ذرْوَ الرياح، من قبل مجموعاتٍ هي على الضدِّ من ذلك، بما توافر لها من مناخات الاستغلال والجشع والتكالب على الاستحواذ على كل ما تطوله يدها. كل ذلك بالوكالة، من دون أن تطول شيئاً يُذكر في واقع الأمر! الفتات. ذلك ما تطوله!

مآلات التُهْمتين: زندقة/ تخوين هو إهدارٌ للحياة، وإرسال أصحابها إلى حتف بحسب مقتضيات المراحل، وبحسب مراعاة ضئيلة لعيون في الجانب الآخر من الحياة تراقب ما يحدث!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4174 - الأحد 09 فبراير 2014م الموافق 09 ربيع الثاني 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 12:15 م

      لم ارى قط مثل هذا!

      لم ارى نخلتين عدوتين في بلادي لم ارى ماء كدرا لم ولن ارى غير التسامح وقلوب كبيره

    • زائر 1 | 12:05 ص

      رمتني بدائها وانسلّت مثل عربي لأمثال هؤلاء

      عندما لا يجد هؤلاء البرجوازيون على مطالب هذا الشعب أي غبار ولا يستطيعون انتقادها فإنهم رأسا يقفزون على نقاط الضعف التي لديهم فيحاولون الصاقها في خصومهم
      وكما يقول المثل اعلاه رمتني بدائها وانسلت والمعنى انهم يرمون غيرهم بعيوبهم

اقرأ ايضاً