العدد 4301 - الإثنين 16 يونيو 2014م الموافق 18 شعبان 1435هـ

دكاكين لبيع المغشوش...

محمد حميد السلمان comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

جلس أمام والده، الذي كان منشغلاً بالبحث في مكتبته، وبيده بعض قصاصات الصحف المحلية وهو ينظر إليها محركاً رأسه يمنة ويسرة.. نظر إليه الأب وهو يشعر بما في نفسه: يبدو أنك في حيرة من أن تصدق أو لا تصدق ما تقرأ بيدك. فرد عليه الابن: نعم يا والدي، فجل ما يُكتب في الفترة الأخيرة في بعض الصُحف وبشكل إسهال في بث المعلومة التاريخية، وكأن كل فرد صار مؤرخاً ألمعياً، أري به تناقضاً بين مقال وآخر مما يربك تفكير المواطن ويشوش عقله. خصوصاً حينما تشم بين أسطر بعض هذه الكتابات رائحة غريبة لم نألفها نحن، ولا اعتقد أجدادنا كذلك، منذ عاشوا ونعيش اليوم على تراب هذه الجزر. فبادره والده: أعلم ذلك يا ولدى، وبخبرتي وعلمي أرى أن الغث فيها أكثر من السمين، فهناك البعض ممن تركوا تخصصاتهم الأولي وبدءوا يستسهلون الكتابة التاريخية طمعاً في مال أو رضا مسئوليهم، صاروا مؤرخين بالغفلة. وهناك من يعتقد، بناءً على أن العلاقات بين الطبقات الاجتماعية في المجتمعات رأسية في معظم عصور التاريخ القديم والوسيط، فإنه بالتالي يصبح الفرد هو صانع التاريخ، ولو كان هذا الفرد من أجهل الناس، وإن كان متسلطاً على رقابهم. لكن ما الذي يحيرك فيما تقرأ تحديداً. فقال الابن: قضية التعاون والعلاقات التي من الممكن أن تكون قد نشأت بين من يحكم الناس ومن يُحكم من الناس تحت مسمي (الرعايا).

أخذ الوالد بيد ابنه وأجلسه بقربه وهو يقول: يا بني، إن علاقات الشعوب بحكامها لا تقاس بعلاقة نفعية وذات مصالح مؤقتة، قائمة أو كانت فيما مضى، بين بعض الأعيان والوجهاء وبين من يحكم، حتى وإن تبني هذا الرأي شخص أو أثنين كتبها في صحافة هنا أو هناك. فمن يروج لهذا لهو من الكتاب المدفوعين بهواجس من نوع آخر وغرضهم مكشوف للعامة. وإلا فأمامنا عشرات الكتب التي كتبت عن روعة العلاقة ومتانتها بين الحكام الأمويين، والعباسيين، والعثمانيين وشعوبهم؛ بل بين أمثال هولاكو، وأتيلا، وهتلر، وموسوليني والشعوب التي غزوها وسيطروا عليها حين وجدوا من يتعاون معهم من تلك سفاسف الناس طوال تلك السنوات. فهل كل ما كُتب حقيقي؟ وهل معنى هذا أن أؤلئك الحكام، ومنهم من هم في قمة الديكتاتورية والوحشية؛ حكام طيبون ومقبولون ومغفورة ذنوبهم فيما فعلوه بالشعوب؟

فقال الابن: لحقاً ما تقوله يا أبي، ويحتاج لتأمل وتفكير. فواصل الأب حديثه بأن أفرد أمام الابن بعض الأوراق المكتوبة بخط اليد: اسمع يا عزيزي، كنت قد سجلت بعض النقاط عن أمثال ما يكتب اليوم في محيطنا المحلي على وريقات أحب أن تحتفظ بها لتنشرها يوما بعد إشباعها بحثاً وتمحيصاً. لكن لتعلم يا ولدى، بأن ما تقوله أنت يحتمل الصواب والخطأ، وما أقوله أنا كذلك يحتمل الصواب والخطأ، ما لم يُدعّم بوثائق مدققة ومحققة بمقاربات ومقارنات، وليس كما يفعل الكتبة في الصحافة اليوم عندنا مع ادعاء العلم.

وورقتي الأولي، موجهة لمن يبحث في فترة القرن التاسع عشر للميلاد تحديداً بالتمجيد والتهليل وادعاء أنه قرن السلام، فلماذا إذن تدخلت السلطات البريطانية في الخليج عام 1820 وفرضت معاهدة السلام العامة أو الدائمة على كيانات المنطقة المتناحرة؟ هل لكون ما كان يحدث هو أمر ايجابي في صالح التمدن والسلام أم العكس؟ ولماذا بهذه المعاهدة، وهي ذات نفس استعماري بامتياز، تحول الحق الذي كانت تعلنه تلك الكيانات بفعل قوة الغالب، إلي شرعنة هذا الحق، على يد بريطانيا بواسطة المعاهدات العامة أو الثنائية بين السلطات البريطانية وزعماء تلك الكيانات؟ لدرجة أنها شرعت أمراً غريباً جداً ومضحكاً في ذات الوقت أطلقت عليه «حدود الحرب المشروعة» بشرط أن توافق عليها السلطات البريطانية.

والورقة الثانية، تقول بأن الجميع يعلم بأن القبيلة، وهي وحدة اجتماعية متماسكة لها إطار اجتماعي محدد ومغلق وعقيدة دينية واحدة، حين تنتقل من منطقة لآخري ليس من السهل أن تتجانس وتتزاوج مع المجتمع الذي عادة يرتبط بالتقاليد وعبادات ضمن طائفة واحدة وفي جماعات وهيئات دينية استمدت شرعية وجودها من التاريخ الديني- الاجتماعي لمناطقها الأم. ومن هنا نرى الفارق بين أؤلئك وبين المرتبطين المجتمع الريفي والساحلي المتفرع من الحقل، أو البحر وما يرتبط بهما من مهن وحرف، وهي ذاتها الفواصل بين رمال الصحراء، ورمال الريف وساحل البحر.

ثم أن التكيف الحضري والانتقال من حالة مدنية إلي أخري لا يأتي من لدن تلك التجمعات التي لا تمتلك أُسس مثل هذا التحول الحضاري واقعاً، فكيف تعطيه لغيرها، وفاقد الشئ لا يعطيه. ثم أن تلك التجمعات المتحولة بقي معظم أفرادها أميون ويحاربون التطور خصوصا في الجوانب السياسية والمدنية، من حريات صحافية، ونقابية، وحرية رأي، وغيرها.

وفي مقابل هذه الحقيقية فلا معنى البته لما يروج له بعض أصحاب الأقلام السوداء بأن المدنية لم توجد إلا في داخل المدن الحديثة النشأة. وكأن لا علاقة للقرى بالحضارة والمدنية، مع أن تاريخها المدني يشهد بعكس ذلك منذ قيام الدول الإسلامية في هذه الجزر، وبروز أعلامها في الثقافة والعلم، ومشاهير صناعها وحرفييها، أم أن زمان اللؤلؤ لم يوجد إلا فجأة وحديثاً داخل تلك المدن فقط؟

كما أن الترويج لمقولة ناقصة الحجة والبيان، بأن بعض الطوائف منغلقة ولم يندمجوا في المجتمع، لهو ضرب من الهذيان والتجديف المتعمد لا يصمد أمام أريحية وطيبة أهل البحرين الأصلاء في كيفية التعامل مع كل الوافدين من خارجها على مر العصور.

ولذا فجل ما استغربه من بعض الوجوه المثقفة والتي كانت تُحسب على الحركة الوطنية ذات يوم، أنها بدأت بفتح دكاكين لبيع المشوش والمغشوش من الأحداث التاريخية، وان بدت في وجهها العلمي البارز تحاول، أن تقنعنا بصدقها العلمي وبحثها عن الحقيقة المغيبة لا غير، دون نفع ولا مصلحة آنية سرعان ما ستزول أمام أشعة الشمس المشرقة.

وهنا، ابتسم الابن في وجه والده، وأخذ تلك القصاصات الثمينة من يده وقبلها وضمها إلي صدره، ثم نظر لقصاصات الصحف التي بيده فرمى بها في سلة المهملات.

إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"

العدد 4301 - الإثنين 16 يونيو 2014م الموافق 18 شعبان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 4:58 ص

      درر يا استاذ محمد

      أملنا فيكم ، أنتم أبناء الوطن المخلصون لترابه ، أنتم من سيقوم بكتابة تاريخ بلدننا الحقيقي وسيدحض ما يتم كتابته من أكاذيب وسخافات يلعقون بها أحذية من يهمه الأمر ليستلموا الهبات والمكرمات.شكرا استاذي .

    • زائر 2 | 2:07 ص

      القصص للمواعظ لا تنفع اذا كان الكلام الصريح لا يجدي

      هؤلاء تقولها صراحة لا تجدي معهم هم تقوم بعملية الكلام لك وافهمي يا جارة

    • زائر 1 | 12:55 ص

      نعوّل عليك

      نعوّل عليك يا أستاذ محمد للرد عليهم وبالأخص المدعو "ب ح" وما يبثه في مدونته ومن يصفق له في الصحف الصفراء.

اقرأ ايضاً