العدد 4402 - الخميس 25 سبتمبر 2014م الموافق 01 ذي الحجة 1435هـ

العرب وغياب التوازن في العلاقات الدولية

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

يهدف هذا الحديث للمناقشة بإيجاز، لإسقاطات ما يعرف بالنظام الدولي، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى يومنا هذا على الواقع العربي. وما يهم في هذه المناقشة، هو ربط ذلك بما يجري من عمليات تفتيت، وفوضى عارمة تعم معظم بلداننا العربية . والأساس هو أن تساعد هذه القراءة، على فهم ما يجري، وأسبابه باعتبار ذلك معرفة الداء والسبيل الأنجع لعلاجه.

يمكن القول إن النظام العالمي مّر منذ نهاية الحرب العالمية الأولى بأربع مراحل؛ الأولى شملت ترتيبات ما بعد الحرب، وكان أبرز مظاهر تلك المرحلة، هو تشكيل عصبة الأمم، وإعلان الرئيس ويدرو ويلسون مبادئه الأربعة عشر، المتعلقة بحقوق الإنسان. وبالنسبة لنا نحن العرب، أضيف إلى تعبير الحماية، تعابير أخرى، شملت الوصاية والانتداب. وتبع ذلك تقسيم المشرق العربي، وفقاً لاتفاقية سايكس - بيكو، ووعد بلفور، الذي هيأ لقيام وطن قومي يهودي على أرض فلسطين.

ما يهم في هذا السرد هو تشخيص طبيعة النظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب، فعصبة الأمم ومبادئ ويلسون، كانت تعبيراً عن توازن القوى في مرحلة تاريخية محددة، اتسمت بتراجع دور الاستعمار التقليدي، وبروز قوى جديدة على المسرح الدولي، هي الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي.

كانت مرحلة أولى ناعمة، في منطق الإزاحة، أخذت لبوساً أخلاقياً، هو حقوق الإنسان وحق الأمم في تقرير المصير، مع إقرار للقوى التقليدية القديمة ببعض المصالح، واستمرار الهيمنة على مستعمراتها السابقة.

ودلت كل المؤشرات اللاحقة، على أن هذه الحقبة لن يقدر لها أن تستمر طويلاً. لكن مشاريعها، في الوطن العربي، جرى استكمالها. فالعراق والأردن وفلسطين، غدت من حصة البريطانيين، وسورية ولبنان من حصة الفرنسيين، ووعد بلفور بدأ تنفيذه بالهجرة اليهودية المكثفة لفلسطين. لكن نتائج الحرب بدأت تفعل فعلها على الاستعمار التقليدي، حيث سعت الولايات المتحدة إلى اكتساب مواقع اقتصادية وسياسية جديدة، في المستعمرات البريطانية والفرنسية. وكان ذلك يعني أن الاستعمار القديم يتقهقر، وأن البوابات تُفتح لنوع آخر من الهيمنة.

المرحلة الثانية، في النظام الدولي، أخذت مكانها بعد الحرب العالمية الثانية، وأبرز معالمها، انهيار عصبة الأمم، وتشكيل هيئة الأمم المتحدة ومقرها نيويورك، وبروز مجلس الأمن الدولي، بخمسة أعضاء دائمي العضوية، يمتلكون استخدام حق النقض، أربعة منهم كانوا في المرحلة الأولى في حكم التابعين للولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي كان النشاز في تركيبة المجلس. أما الأعضاء الآخرون فيتناوبون الحضور دورياً، دون امتلاك حق النقض.

وبعد امتلاك الأميركيين والسوفيات للقنبلة النووية، ساد عالم متعدد الأقطاب بكتلتين رئيسيتين: الكتلة الغربية بزعامة أميركا، والكتلة الشرقية بزعامة السوفيات، الأولى نهجها الاقتصادي رأسمالي، والثانية اشتراكي. وكانت أهم معالم تلك الحقبة، هو بروز حركات التحرر الوطني، التي حملت السلاح للتخلص من ربقة الاستعمار. وقد ساعدت الثنائية القطبية على إنجاح هذه المرحلة، وإنجاز بلدان العالم الثالث أهدافها في التحرر وتحقيق الاستقلال.

في المرحلة الأولى، شهد الوطن العربي، مقاومة ضارية للاستعمار، لم تسعفها العوامل الدولية، وبقيت معزولة عن تأييد القوى الكبرى. لم يصاحب تلك المرحلة، باستثناءات نادرة صراعات محلية، رغم هشاشة الواقع الاجتماعي العربي، لكن كل الأنظار والجهود كانت موجهة لمقاومة المحتل. وفي المرحلة الأولى، عضّد من روح المقاومة انتصار الثورة الصينية، ونجاح القيادة الوطنية المصرية، في تحقيق نجاحات باهرة، في المقدمة منها تأميم قناة السويس وبناء السد العالي، وكسر احتكار السلاح.

وكان الاتحاد السوفياتي قد أعلن دعمه لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث. وتأسست كتلة عدم الانحياز، لتؤسس لبروز قوة ثالثة تنأى بنفسها عن الخيارين العسكريين، خيار الناتو الغربي، ووارسو الشرقي. وكانت حقبة ثنائية قطبية جرى فيها ترصين للعلاقات الدولية.

الحقبة الثالثة، بدأت بسقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، وتربع الولايات المتحدة على عرش الهيمنة الدولية، وكانت مقدماتها دعم المعارضة الأفغانية من قبل الأميركان وحلفائهم ضد الوجود العسكري السوفياتي في البلاد. وقد هيّأت مرحلة الأحادية القطبية للانهيارات التي يشهدها الوطن العربي الآن. فقد جرى خلالها احتلال العراق وأفغانستان، وانتهت المرحلة التي اتسمت بترصين العلاقات الدولية، وخلالها هيمنت الإدارة الأميركية على المؤسسات الدولية، وبضمنها هيئة الأمم المتحدة، وتفردت أميركا باستخدام حق “الفيتو”، وكان نصيب القضية الفلسطينية، من تلك الاستخدامات هو نصيب الأسد، حيث وقفت أميركا بالضد من حق الشعب الفلسطيني في الانعتاق وتأسيس دولته المستقلة فوق ترابه الوطني. ولم تجرؤ أية دولة أخرى طيلة تلك الحقبة، على استخدام هذا الحق. وتحت شعار مكافحة الإرهاب، رفعت أميركا عصاها الغليظة، بحق كل من يناهض سياساتها .

أدت كلفة التوسع العسكري الامبراطوري الأميركي، لأزمات اقتصادية حادة مستعصية، نتج عنها أن أصبحت أميركا تحمل أكبر مديونيةٍ في العالم. وخلال العقود الأربعة الماضية، اندفعت الصين بقوةٍ في بناء تجربتها الاقتصادية الجديدة، وبدأت في اقتحام أسواق العالم، بشكل قلّ له نظير. وأعادت روسيا، بناء قوتها الاقتصادية والعسكرية سريعاً، بعد تسلم بوتين للسلطة.

ثم ولجنا مرحلة رابعة، لم تتأسس فيها توازنات القوة بعد. فلا هي مرحلة أحادية قطبية، ولا مرحلة ثنائية. وقد وصفها هانتنغتون بأنها تعددية قطبية بقيادة أميركية، لكن التعبير غير دقيق، فشرط القيادة هو تسليم الآخرين بها. لكن سلوك روسيا الاتحادية في جورجيا وأوكرانيا، وطموحات الصين الاقتصادية لا تنبئ بذلك.

سوف يستمر ما نشهده من فوضى وانهيارات عارمة بالوطن العربي، إلى أن تتحدّد معالم النظام الدولي الجديد، وتتحقق توافقات وترتيبات جديدة، بين القوى الكبرى، تعيد الاعتبار للقانون الدولي ولمبادئ الأمم المتحدة. ولن تستمر هذه الفوضى طويلاً، فالعالم لا يقبل الفراغ، ومحددات هذا النظام قد بدأت تعبر عن نفسها بوضوح، والأهم هو أن يكون العرب على استعداد لأخذ مكانهم اللائق في هذا العالم، كي لا يكونوا على ناصية الطريق. وتبقى القراءة بحاجةٍ أكثر إلى المزيد من المناقشة والتحليل.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 4402 - الخميس 25 سبتمبر 2014م الموافق 01 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:59 ص

      محمد

      وصف يستحق الشكر لاتصاله باستشراف الماضي ومرتبط بالحاضر وله نتائج المستقبل بحاجةٍ للمناقشة والتفسير والتحليل. شكرا للاستاذ.. تحياتي..

اقرأ ايضاً