العدد 4402 - الخميس 25 سبتمبر 2014م الموافق 01 ذي الحجة 1435هـ

الاستخفاف العربي... سلسلة لا نهاية لها من الكوارث!

شفيق الغبرا comments [at] alwasatnews.com

يزداد المشهد العربي توغلاً في تحديات تفوق طاقة كل قارات العالم مجتمعةً، وذلك بسبب حالة الاستخفاف السائدة بين النخب والسياسيين والمسئولين العرب، وبسبب ضعف الكفاءة التي تميّز العاملين على أعلى المستويات، والتي تنتقل للفئات والمجتمعات العربية والثقافة المسيطرة عليهم.

إن دائرة الاستخفاف ثقافة وممارسة، وهي ثقافة تعيش في أسوأ حالاتها عند السلطات العربية وتمثل أحد أكثر نقاط ضعفها وضوحاً وخطورة عليها وعلى المجتمع الأوسع. فهناك حالة استخفاف الأنظمة بالمعارضة وبحقها بأن تتواجد وتشارك وتتعلم؛ واستخفاف السياسيين بالاقتصاد والتنافس وقيم العمل؛ واستخفاف الغالبية بالأقلية، أو الأقلية عندما تتحكم بحقوق الغالبية، واستخفاف الرأي السائد بالرأي الآخر؛ واستخفاف الأغنياء بالفقراء والأقوياء بالضعفاء والكبار بالشباب.

وعندما بدأ بضعة معارضين عراقيين في تسعينيات القرن العشرين لم تسمح لهم الظروف أن يبقوا في العراق ويمارسوا معارضتهم تحت ضوء الشمس بالسعي لإسقاط النظام العراقي، استخف النظام العراقي كما واستخفت المنظومة العربية بهم. لكنهم بصورة أو بأخرى زيّنوا للدولة الكبرى في العالم فوائد اجتياح العراق، بل جروها جراً بتحالفات مختلفة للقيام بما كانت ترفضه في مراحل سابقة. ذات الاستخفاف هو الذي برز مع وعود الدول العربية المقدمة لشعوبها، وخصوصاً في كل من مصر وسورية بالسعي نحو الإصلاح. تلك الوعود خلقت تفاؤلاً بكل شيء لكنها ما لبثت أن تحولت ضيقاً مضاعفاً من استمرار ذات الأوضاع بلا تغير أو تعديل. وعندما تيقن المجتمع أن الوعود شكل من أشكال الاستخفاف تحرّك باتجاه الثورة، كما حصل مع بدايات الربيع العربي في مصر وسورية وليبيا وغيرها.

وعندما طُرحت مطالب السوريين الطبيعية والإنسانية حول التغيير، استخف النظام بها، بل استخف بمظاهر المعارضة البسيطة في البداية والتي برزت في كل من درعا ودمشق. كانت النتيجة تعمق الثورة في سورية في ظل سياسة قمعية مارسها النظام، انتهت إلى تدمير النظام وسورية وتفتيت المجتمع وقتل وتهجير الملايين.

ومن أخطر أنواع الاستخفاف في هذه المرحلة هو ذلك الموجّه تجاه الحركات الإسلامية، فهي تارة تصنف بالإرهابية، وتارة بالرجعية، وتارة بالمجرمة يجب عزلها بالكامل. لكن الحركات الإسلامية لم تبدأ كما بدأت القاعدة، والقاعدة لم تتوالد إلا من جراء الاستخفاف وذلك عندما ساد الاعتقاد بأن الجهاد الأفغاني يتطلب متطوعين عرباً وغير عرب. فالاستخفاف بالحرب في البداية ثم بطبيعة العائدين بعد الحرب وضرورات التأهيل، والحالة النفسية التي قد يحملها من مرّ بتجربة الجهاد، أدّى بهم إلى التحول نحو الإرهاب العابر للقارات.

القاعدة نتاج استخفاف، لكن وضعها في نفس المصاف مع تيارات إسلامية معتدلة سلمية أو تيارات إسلامية تمارس الكفاح المسلح الوطني كما هي حال “حماس”، ينتج استخفافاً لا تحتمله المنطقة. فالعزل الموجّه للتيار الإسلامي السلمي ينتج عزلاً لفئات اجتماعية رئيسية تعيش في قاع ووسط وفي أرياف وضواحي المجتمعات العربية، وهذا بدوره ينشر حدة ويؤدي لردود فعل خارج نطاق التغطية.

لكن الإسلاميين في مصر، على سبيل المثال، استخفوا بنتائج الثورة المصرية وبحلفائهم في التيار الثوري، فالمعارضة التي تبلورت من جراء الثورة المصرية عانت من استخفاف حكومة الرئيس مرسي السابقة لها، ما أضعف حكمه وساهم في دخول الجيش ثانيةً إلى حيز السياسة والتدخل. لكن قيام الجيش بعد ذلك بسجن كلّ من انتخب ديمقراطياً في مصر بعد الثورة، ثم الاستخفاف بخريطة الطريق والحل السياسي وضرورات التعاقد والتوافق والإصلاح في ظل عزل تيارات رئيسية، هو أيضاً استخفافٌ جديدٌ بوضع يتطلب حلولاً أقل أمنيةً، وأقل قمعيةً، وأكثر سياسية وانفتاحاً على الرؤى المختلفة.

أما “داعش” (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، ذلك التنظيم الذي امتد لحصد أقليات مسلمة وغير مسلمة، فهو أيضاً نتاج استخفاف من نوع آخر. جاءت حكومة رئيس الوزراء المالكي بكل أنواع الاستخفاف تجاه الخصوم والأصدقاء، تجاه السنة كما تجاه الشيعة، بل إن الاستخفاف شمل الجيش والقوات المسلحة العراقية وذلك من حيث طريقة التعامل والتهميش والتمييز. الاستخفاف تحكم بسياسة الحكومة العراقية منذ أن اتهم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي نائب رئيس الجمهورية السني المذهب طارق الهاشمي بممارسة الإرهاب. تلك المقدمات التي تضمنت تهميشاً لفئات سنية رئيسية أدت لظاهرة عقائدية مثل “داعش”. لكن الأمر مرتبط بنفس الوقت بالاستخفاف في التعامل مع الثورة السورية وترك الحرب المفتوحة ضد الشعب السوري نزيفاً مستمراً للشعب والمواطنين.

أما الاستخفاف العربي بحقوق الإنسان فهو الأخطر. هذا الجانب الذي لم يكن ليلتفت إليه أحد في سبعينيات القرن العشرين، يقف بقوة اليوم وسط الحالة العربية المشتبكة مع نفسها. إن الاستخفاف بالسجين في سجنه، والأسير في أسره (مهما كان شكل الجماعة أو النظام أو الجيش الذي انتمى إليه) والمثقف في كلمته وفكره وحرية تعبيره، لن يمر بلا مزيدٍ من التآكل في النظام العربي وفي الدول التي ولدت بعد الاستقلال. فحادثة البوعزيزي على صغر حجمها أنتجت حالةً لم يشهد العرب مثيلاً لها في تاريخهم الحديث. نفس حادثة البوعزيزي المتعلقة بحقوق الإنسان وقعت مع مجموعة من الأطفال كتبوا شعارات ضد الرئيس الأسد، لكن تدخل الأمن بأسلوبه أشعل ودمّر وفجّر وقوّض. أما في مصر فقد أدت حادثة خالد سعيد إلى الثورة المصرية.

إن مكانة حقوق الإنسان في الوضع العربي يجب أن يستوعبها كل صانع قرار ومسئول في كافة مراتب النظام العربي: فالمدخل للإصلاح مرتبطٌ بالتوقف عن الاستخفاف بالآخرين وبحقوقهم. هذا يتطلب منا ضمانات واضحة للعدالة، وضمانات للمحاكمة العادلة وللأسير وللسجين ولكل مواطن، ضمانات يقتنع بها المجتمع قبل أن يقتنع بها القادة. هذه الضمانات هي الوحيدة التي تحد من تحوّل المواطن إلى مشروع انتحاري يسعى لهدم البيت على رأس من فيه. للمواطن قيمة سامية، واحترام حقوقه الأساسية هو مربط الفرس بالنسبة للمستقبل العربي.

من الصعب أن نجزم كيف سينعكس الاستخفاف الرسمي العربي بالتعليم في المستقبل المتوسط عليها. فقد تركنا جامعاتنا تتراجع، وسمحنا لكتب الحفظ تفعل فعلاً تدميرياً في ثقافتنا. مجرد التفكير بتعليمٍ يخلق جيلاً “للسمع والطاعة” فيه الكثير من الاستخفاف بالناس وبحقهم في الاختلاف والنقد والتساؤل والتعلم من تجاربهم. إن جيل “السمع والطاعة” هو الأخطر، وذلك لأنه لم يتذوق الحرية بتدرج ومسئولية، ولهذا ينقلب فجأةً عندما يكتشفها فجأةً، حينها ينقلب إلى حالة الرفض ويصبح بلا كوابح.

ومن الصعب التنبؤ الآن إلى أين سيقودنا الاستخفاف بالصراع الطائفي، والاستمرار في تهميش فئات من طوائف مختلفة وربط ذلك بدواعٍ دينية ومستندات قديمة تكفّر وتميّز. الوضع العربي ترك التمييز ضد الأقليات الطائفية من دون أدنى تقدير منه لنتائج هذا التمييز على النفوس، فمن كانوا بالأمس القريب من شيعة العرب في طليعة النضال مع القومية العربية أصبحوا في السنوات الأخيرة ناقدين لها خائفين من الأكثريات. الاستخفاف بالصراع الشيعي السني وجذوره التي تعود لعقود سابقة دفع نحو تدمير البنيان العربي.

لقد دفع استخفافنا بأنفسنا وبحقوقنا وبشعوبنا وبتنوعنا وبالسياسة في دولنا ومؤسساتنا إلى استخفاف العالم بنا. فبسبب استخفافنا بإنسانية مواطننا أصبح الدم العربي رخيصاً في كل مكان، وأصبح سجن العربي أو منع دخوله عواصم العالم بخطأ إجرائي يتكرّر بلا مراجعة. لقد انتقل الاستخفاف بنا إلى فلسطين، حيث الاحتلال الإسرائيلي وتهويد القدس والاعتداء اليومي.

إن وجود قادة عرب على استعداد لحرق بلدانهم وتدميرها بيتاً بيتاً، وبلدة بلدة، مقابل كرسي حكم لهو أمرٌ مخيفٌ يجعلنا أكثر خوفاً من المستقبل وما يحمله لنا. وسيبقى السؤال المفتوح: ما هي شروط إيقاف الاستخفاف العربي؟ ومتى تتوقف دائرة الاستخفاف وقصر النظر العربية التي حكمتنا منذ حرب 1948 وعذبتنا بسبب هزيمة 1967 ومازالت تجرنا عبر سلسلة لا نهاية لها من الكوارث.

إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"

العدد 4402 - الخميس 25 سبتمبر 2014م الموافق 01 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 3:55 ص

      ارض خصبه

      نحن بني يعرب لنا تاريخ عريق في الأستحمار فأقرأ تاريخنا فهو مليء بالمآسي فإذآ انتصرنا بطشنا وإذا هزمنا فنحن مع من غلب ونسلم رقآقبنا لم يسمى ولاءة الأمر

    • زائر 1 | 11:17 م

      من زمان

      الاستعمار لن يخرج من بلداننا الا بعد استحمارنا. ولنا في مصر وليبيا والعراقوسويا والبحرين خير الأمثلة. شعارات انسانية جميلة ولكن على ارض الواقع تكميم وانتهاك وقتل وتشريد وكل اصناف المساوىء

اقرأ ايضاً