العدد 4436 - الأربعاء 29 أكتوبر 2014م الموافق 05 محرم 1436هـ

ابنتكم لن تهرب من المعركة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ما يُميِّز البرازيل أنها دولة «متغيِّرات». نحن لا نتحدث عن العامل الجغرافي لمساحتها البالغة 8.514.877 كيلومتراً مربعاً كمتغيِّر أساسي في السياستين الداخلية والخارجية، ولا لسكانها البالغ عددهم 194 مليون نسمة وتأثيره المباشر على الاقتصاد، بل نتحدّث عن متغيِّراتها في نظام الحكم السياسي، الذي استطاع أن يستوعب انتخاب امرأة معارضة كرئيسة للجمهورية، في خطوةٍ لم تحدث حتى في الولايات المتحدة الأميركية.

فقبل أيام، أعلِنَ عن فوز ديلما روسيف رئيسةً لجمهورية البرازيل الاتحادية لفترة رئاسية ثانية. فوز هذه المرأة البالغة من العمر 67 عاماً، والتي كانت معتقلةً طيلة ثلاثة أعوام أيام الحكم العسكري لنشاطها السياسي، قد شكَّل إعادة تفسير للسياسات البرازيلية الداخلية، ونظرتها للمكونات الاجتماعية والسياسية ولطريقة إدارة الحكم.

ففوز ديلما بـ 51.45 في المئة أعطى انطباعاً عن مدى ترسّخ «النسبية السياسية» في ذلك البلد. فضمن معاني ذلك أن أقل من نصف الشعب البرازيلي لم يكن مع هذا الخيار، لكنه لم يستطع أن يتخطّى عتبة معارضته لذلك باتجاه الخصومة وفتح جبهة مع منافسه في الخيار المنافس. وهو ما يعني أنه يقبل بنصفه الآخر، معتبراً الفائز رئيساً له ولبلده.

هذا التمرين على النسبية السياسية يكاد يكون أهم الاختبارات التي يتوجب على الشعوب أن تجتازها. فنتيجته هو الاعتراف بأن الأرض والثروة والحكم ليست بمقاس أحد دون أحد، وإنما هي تتمدّد حتى آخر شبرٍ من البلاد. وبمنطق التجربة البرازيلية فهي تغطي البِيْض والسُّود والباردويين والهنود الحمر والآسيويين وكل فئات المجتمع مهما صغُرت.

عندما نرجع إلى خطاب ديلما بعد إعلان فوزها، فإننا سنجد أنها وجَّهت «الشكر لجميع الشعب البرازيلي» حتى للذين لم يُصوِّتوا إليها، قائلةً أن لديها نظرة «أفضل للنساء والسود والشباب»، فـ «المودة والدفء والمحبّة التي نلتها في هذه الحملة الانتخابية يعطيني القوة على الاستمرار». هذه ليست مجرد شعارات، بل هي إحدى القيم والسياسات التي جعلتها تفوز مرةً أخرى، معتمدة على المسحوقين وعلى الأقليات كالسُّود والهنود الحمر، وبالتحديد في شمال شرق البلاد الفقير نظراً لبرامجها الاجتماعية كمنحة الأسرة.

وربما هي فرصة حَيَّة في جانب آخر من القراءة لهذا الحدث اللاتيني، وهو تلمُّس حقيقة الشعور، الذي انتاب هذه المرأة، وهي تُنتَخَب مرةً أخرى رئيسةً لبلادها من خلال الاقتراع المباشر من شعبها. ذلك الاقتراع وهذه الثقة التي تعني تصويتاً على شخصها وتاريخها ونزاهتها وعملها وطموحها وخطابها وبيانها، والأهم قبولها الحقيقي عند الناس. وكان حقاً عندما قالت أمام مؤيديها: «أقول للبرازيل والبرازيليين إن ابنتكم لن تهرب من المعركة».

بالتأكيد هو شعورٌ بالثقة وقوة الموقف ومتانة المنهج، لأنها تعتقد بأنها ستحكم مرةً أخرى بتفويضٍ من شعبها وإطلاق ليدها من خلاله. وأن كل خطوة من خطواتها السياسية والاقتصادية ستقوم بها في الداخل والخارج هي مدعومة بـ 72.930.000 مليون برازيلي صوَّتوا لها، وأيضاً 70.070.000 مليون برازيلي صوَّتوا لمنافسها لكنهم يُسلِّمون بها رئيسةً لهم بعد هزيمة ممثلهم، الذي قَبِلَ بالنتيجة، مهنئاً ديلما بهذا الفوز.

لكن، عندما نُسقِط الصورة بشكلها المعاكس ماذا سنجد؟ بمعنى: ما هو شعور مَنْ هو في السلطة ردحاً من السنين دون تزحزح، ودون انتخاب، وفي الوقت عينه موسوم بالفساد، ومُنفِّذ لسياسات اقتصادية وأمنية واجتماعية فاشلة، سلبت من الناس أمنهم وسلامتهم! تُرَى هل يستشعر الدعم الشعبي، وهو لم يأتِ عن طريقه، ما خلا المجاملات والخطاب الخشبي التلميعي الخادع، الذي لا يُقدِّم ولا يؤخر في موقعه الحقيقي؟

فالانتخابات على حد وصف ديلما، هي «وسيلة سلمية وآمنة لتغيير البلاد»، وهي «تصويت للأمل الذي قدّمه الشعب من خلال تحسين إدارة الحكم». إنها مراوح تهوية ضرورية للسلطة، وحائلٌ دون تكلسها وانفجار الواقع عليها، عبر الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي عادةً ما تنتجها الحركة العامة للدولة والمجتمع معاً.

هذا النوع من النظام السياسي الحر لم يمنع البرازيل من أن تتحوَّل إلى أكبر اقتصاد لاتيني، وتاسع اقتصاد عالمي، بناتج محلي يتجاوز التريليون دولار، وبها ثلاث شركات هي ضمن المئوية الأولى من كبريات الشركات العالمية، رغم أنها تُجاور أكبر اقتصاد في الكون (الولايات المتحدة الأميركية) والذي يمتلك أربعين في المئة من اقتصاد العالم.

ذلك النظام البرازيلي لم يكن مانعاً لأن تنخفض البطالة إلى أقل من 6 في المئة، أو أن تخلق اقتصاداً هو أعظم حتى من الاقتصاد البريطاني المتين، ولا للإبداع المالي الذي جعل النمو البرازيلي أسرع نمو عالمي، أو أن يتجانس مع أهم منظومة اقتصادية عالمية «بريكس» التي تهيمن على أكثر من 15 تريليون دولار، وتضم أربعين في المئة من نفوس هذه الأرض!

ليس ذلك فحسب، بل إن ذلك النظام، من خلال اعتماده على النسبية السياسية، لم يكن لينظر للمتظاهرين، الذين خرجوا على سياساته في تنظيم كأس العالم، على أنهم مأجورون أو مدفوعون أو متآمرون أو حمقى أو عملاء، بل تعاطى معهم بمزيدٍ من المرونة وبالنقاش.

هذه تجربة يمكن للحصيف أن يتدبَّر فيها ليقرأ منها إجابات على تساؤلات شعبه، فيُريح البلاد والعباد، أما الغبي، فكما كان يقول برتراند راسل، فإن تقريره عما قاله رجل بارع يستحيل أن يكون دقيقاً، لأن الغبي يقوم لاإرادياً بترجمة ما يسمعه إلى ما يمكن أن يفهمه.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4436 - الأربعاء 29 أكتوبر 2014م الموافق 05 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:51 ص

      اليمن أقرب

      وما رأيك بما جرى ويجري في اليمن أستاذ محمد ؟ ( الأقربون أولى بالمعروف ) . . . . وعذرا على ازعاجنا لك قي هذا الموضوع

    • زائر 3 | 2:18 ص

      لو تتغير نظره الحكام لشعوبهم

      لو يغيرون الحكام نظرتهم لشعوبهم كشركاء في الوطن و القرار لا عبيد تحت أمرتهم لأنحلت كل المشاكل

    • زائر 2 | 2:10 ص

      الفضيحة

      لان الانتخابات تفضحهم وتزيل شرعيتهم

    • زائر 1 | 12:01 ص

      شكرا لكم مبدع

      الثقه في النفس والأكثر تعقيدا الثقه المطلقه بالشعب والتغير الذي يراه الآخر ولست انت من يحدده اذا الشعب أراد التغير فلابد أن تستجيب لايمكنك أن تسبح عكس التيار حتماً ستغرق تخيل لو العالم العربي والإسلامي فيه برلمانات منتخبة تمثل صوت شعوبها لكنا في صفوف الدول العظمى

اقرأ ايضاً