العدد 4450 - الأربعاء 12 نوفمبر 2014م الموافق 19 محرم 1436هـ

لحظةٌ «طويلة» وزمنٌ «قصير»!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

هناك قَرْن وهناك عَقْد. هناك سَنَة وهناك شهر. هناك أسبوع وهناك يوم. هناك ساعة وهناك دقيقة. وإذا ما أخذنا الأخيرة كمصطلح نجومي على أنها «جزءٌ من ثلاثين جزءاً من الدَّرجَة» حسب ما وَرَدَ في القاموس، فهذا يعني أن هناك من مقاطع الزمن ما هو أقل منها بكثير، كما هو الحال بالنسبة للأجزاء الأولى من الثانية حين يتم الحديث عن «الكوارك».

الحقيقة، أن كثيرين يعتقدون أنهم يعيشون في زمن ممتد، لكن ما هو أحقُّ من ذلك الاعتقاد، هو أن مَنْ يتحكَّم في زماننا هي الأجزاء القصيرة من الزمن. بمعنى، أن حياتنا ما هي إلاَّ لحظات وثوانٍ ودقائق حين تنعقد، ثم تبدأ في الانتظام داخل الزمن. فالأحداث والضربات عادةً ما تكون سريعةً وخاطفةً، ثم يأتي ما يترتب عليها من ألم أو فرح وبناء.

هذا الاعتقاد باللحظة يجعلنا نتحدث عن مسئوليتنا نحن البشر تجاه بعضنا. ما أعنيه، هو كيف يمكننا أن نكون شركاء أو صانعين لِلَحظات غيرنا بشكل إيجابي لا سلبي. نحن لا نتحدث عن اللحظات التي لا يكون للإنسان فيها دور وسبب، والناتجة عن كوارث طبيعية، أو نتيجة تدافع بشري بعيد، بل الحديث هو عن الفعل المباشر والمقصود الذي يصدر من الناس، وتجاه بعضهم لبعض.

لو تخيلنا أن أحداً (فرداً كان أو جماعة أو حاكماً) وفي لحظة ما، قَتَلَ شخصاً آخر بدون جريرة، تُرَى، فهل ستُنهِي لحظة القتل تلك، تداعيات الفعل ذاته؟ بالتأكيد لا؛ فالقتيل لديه أم سيتفطَّر قلبها، ولديه أولاد سيقضون بقية حياتهم أيتاماً، ولديه زوجة ستدخل في نظام الترمُّل وهي في مقتبل العمر. وسيطول بأولئك جميعاً الحال سنيناً، في الوقت الذي كانت فيه عملية القتل مقطعاً صغيراً من الزمن... ساعة ربما أو دقيقة بل وربما لحظة.

ليس ذلك فحسب، فـ «لربما» دفع ذلك الألم النفسي، الأم للمرض ثم الموت كَمداً على فلذة كبدها! وأيضاً «لربما» دفع الزوجة لأن تترك البيت لتذهب إلى السوق والعمل، كي تُوفِّر لعيالها لقمة العيش، الأمر الذي يؤثر على تربيتها لهم، وبالتالي تعرضهم إلى خطر الانحراف أو الاستغلال، والدخول إلى فوضى تربوية، تُفقدهم مستقبلهم، وبالتالي يكونون عالةً على أسرهم وعلى مجتمعهم وعلى الدولة ذاتها.

ليس ذلك فحسب، فـ «لربما» أنتجت تلك اللحظة، ذاكرة بائسة لدى أولاد المغدور به ظلماً، إلى الحد الذي تعتمل بدواخلهم أعواماً تلو أعوام حتى تتضخم، فتشجعهم على ثقافة الانتقام من قاتليه. وهي ثقافةٌ يغذّيها الزمن الكئيب، الذي يلي لحظة قتل والدهم، بكل مشاهده وأحزانه، من شَظَف العيش وقلة العاطفة، فلا ترى سوى جوقة من المنتقمين تندفع بقوة، ليؤثر ذلك على السلم الاجتماعي كله!

هذه اللحظة تسري على صورٍ كثيرة. على مَنْ جَرَحَ شخصاً، ومَنْ حَبَسَ شخصاً، أو سَرَقه أو ظلَمَه أو بَهَتَه أو افتأت عليه. هي كلها لحظات لا أكثر، لكنها تُورِّث زمناً ممتداً من الألم (أو الانتقام)، إن كان جسدياً أو نفسياً. هذا يعني أننا نحن مَنْ يصنع الأكثَرَيْن: الخير الكثير والشر الكثير. هذه هي حقيقة الحياة، وحقيقة كل ما يجري فيها من فرح وحزن.

ماذا لو جعلنا كل شيء معاكساً. أي أن مَنْ سيموت ظلماً وُهِبَ حياته وعمره، وأن مَنْ سُرِقَ منه ماله ظلَّ آمناً على أملاكه، وبدل أن يُظلَم أُنصِف، ومَنْ قيل في حقه البهتان، أشير إليه بالبنان فيما يصنع من خير، وهكذا دواليك، بالنسبة لكافة الأفعال، تُرى ماذا سيكون حالنا؟ بالتأكيد سيتغيَّر كل شيء، وستتحوَّل نواة الأفعال ذاتها نحو الأفضل.

لن يقف الأمر عند هذا الحد، بل إلى إن تسليمنا بأن اللحظة هي التي تحكم على الزمن وتُشكِّله بالنسبة للبشر، فإن تحويلها من لحظة شرٍ إلى لحظة خير، سيعني أن زمناً ممتداً سيكون خيراً على صاحبه وعلى تفاعلاته مع المحيط. فحين تُحفَظ الأموال، لم يحتج صاحبها لأن يستدين أو يسرق، بل و»ربما» تصدَّق بها يوماً. وإن أُنصِف شخص ما، فتشرَّبت نفسه ذلك العدل، فإن ثقافة الإنصاف ستسود في المجتمع بتكريره هو لها مع غيره وهكذا.

وكما جاء في «نهج البلاغة» في باب المختار من حِكَم أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، ومواعظه غاية في الدقة والتوصيف، حين قال: «العدْلُ منها على أَربعِ شُعَب: على غائِصِ الفهْمِ، وغَوْرِ العِلمِ، وزُهْرَةِ الحُكْمِ، ورساخةِ الحِلْمِ: فمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ العِلمِ، ومَنْ عَلِمَ غَوْرَ العِلمِ صَدَرَ عَنْ شرائِعِ الحُكْمِ، وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ في أَمْرِهِ وعاش في الناسِ حميداً».

عندما ننظر إلى العالم، سنجد فعلاً أن ما فيه من مشاكل كبرى هي في جلها نتاج أفعالنا ذات المقياس اللحظي العابر. فلو فككنا كل هذا الزمن، وأرجعناه إلى بواكيره فإننا لن نجد إلاَّ هذه الحقيقة. فـ «الزمن بطيء جداً لمن ينتظر. سريع جداً لمن يخشى. طويل جداً لمن يتألم. قصير جداً لمن يحتفل»، كما قال الشاعر الانجليزي وليم شكسبير. وفي كل تلك الأزمنة كانت بدايتها لحظة!

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4450 - الأربعاء 12 نوفمبر 2014م الموافق 19 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 11:59 م

      مثل ألماني يناسب الفكرة

      ليس في ساعة الزمن إلا كلمة واحدة : الآن

    • زائر 1 | 9:48 م

      وها نحن نعيشها في واقعنا

      ماذا لو لم تجلب شتات الناس ليزاحمون مواطنيك ماذا لو أحسنت العدل على الجميع كأبناء لك ماذا لو قمت باشتراكهم في اتخاد القرار وماذا كثيرة وتبقى النفس البشرية إمرة بالسوء

اقرأ ايضاً