العدد 4459 - الجمعة 21 نوفمبر 2014م الموافق 28 محرم 1436هـ

دروس مذبحة الإحساء الارهابية

رضي السماك

كاتب بحريني

ثمة دروس قيمة عديدة على درجة من الأهمية يمكن استشفافها من ردود الفعل والمواقف التي جرت على خلفية المذبحة الإرهابية التي باغتت المعزين المسالمين المحتفلين بذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) ليلة عاشوراء، الموافق 3 نوفمبر الجاري في حسينية المصطفى بقرية «الدالوة» في محافظة الإحساء السعودية، والتي نفذها، طبقاً لترجيحات رسمية، تنظيم «داعش» وراح ضحيتها ثمانية من أبناء القرية المعزين واثنان من رجال الشرطة لدى مطاردتهم الإرهابيين.

وقد تمحورت مجمل تلكم الدروس الجديرة بالاتعاظ من قبل مجلس التعاون حول الحزم والشدة التي واجهت بهما السلطات السعودية مرتكبي الحادث الإجرامي وأفراد الخلية المرتبطين بهم، فضلاً عن ردود الفعل والمواقف الوطنية الرشيدة والعقلانية على المستويين الرسمي والشعبي.

من أهم تلك الدروس المستفادة، أولاً: التحرك الأمني السريع لتعقب الجناة فور الإبلاغ عن وقوع الحادث، بما في ذلك عدم التواني عن الدخول معهم في مواجهة أمنية أفضت إلى استشهاد اثنين من رجال الشرطة. وقد جرى هذا التحرك بشفافيةٍ دونما أي محاباة لكون الإرهابيين ينتمون إلى مذهب معين، ودونما أي تعتيم على خفايا الجريمة أو تبريرها، ودونما أي إبطاء في الكشف عن هوية الإرهابيين أو الامتناع عن نشر صورهم.

ثانياً: مبادرة أمير المنطقة الشرقية محمد بن نايف في اليوم التالي لوقوع الحادث بزيارة حسينية المصطفى (مسرح الجريمة الإرهابية) في قرية الدالوة لتقديم واجب العزاء لذوي الضحايا الشهداء، وزيارته للمصابين في المستشفى، فضلاً عن زيارة المدير العام للتربية والتعليم في المحافظة للطلبة الأطفال في المستشفى المصابين.

ثالثاً: توجيه القيادة السعودية خطباء الجمعة بأن تركز خطبهم في الجمعة التي تلت الحادث على إدانة الحادث الإرهابي بأشد لهجة لتنافيه مع الشريعة والقيم الإنسانية، وإن كان عددٌ منهم خالف هذا التوجيه، بما يعرضه لاحقاً للمساءلة («الحياة»، 8/ 11/ 2.14).

رابعاً: لربما تُعد مسيرة التشييع الجماهيرية الحاشدة التي سارت في القرية خلف نعوش شهدائها من أكبر المسيرات التشييعية في تاريخ السعودية الحديث، لاسيما أن لفيفاً من المشاركين كانوا يمثلون ألوان الطيف للمجتمع السعودي دينياً ومذهبياً وسياسياً ومناطقياً، ناهيك عن مشاركة بعض الوفود النسوية من محافظات أخرى نائية. ويُحسب لأبناء القرية تحليهم برباطة الجأش والعقلانية الوطنية في مراسم التشييع حيث لفت جثامين الشهداء بالعلم الوطني، ورفعت صور شهداء الواجب الوطني الأمني من منتسبي الشرطة والذين يتقاسمون مع شهداء القرية في الانتماء الواحد المشترك للتراب الوطني السعودي. وهتفت الجموع: «أخوان سنة وشيعة.. هذا الوطن ما نبيعه»، وهو الهتاف ذاته الذي قوبل بازدراء أو عدم مبالاة في إحدى الدول الخليجية. كما اُقيمت صلاة الجماعة على أرواح الضحايا شارك فيها أتباع كلا المذهبين الإسلاميين.

خامساً: عكست التصريحات والبيانات الرسمية والشعبية التي نددت بالجريمة شعوراً بالتحلي بالمسئولية الوطنية العليا في مواجهة حادث إرهابي خطير، كونه لا يهدّد الدولة أمنياً فحسب بل والمجتمع السعودي المتنوع برمته. ونشير هنا إلي تصريحات كل من الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبد اللطيف آل الشيخ؛ والمفتي العام ورئيس هيئة كبار العلماء عبد العزيز آل الشيخ؛ والمجلس الأعلى للقضاء؛ ورئيس ديوان المظالم ومجلس القضاء الإداري عبد العزيز النصار، وبيان الخمسين شخصية دينية واقتصادية واجتماعية في الإحساء، وبيان رجال الدين في القطيف، وبيان مجموعة من النخبة المثقفة والسياسية في المنطقة الشرقية. هذا علاوة على تصريحات وبيانات عديدة لرموز وشخصيات وجهات رسمية وشعبية أخرى أجمعت على التنديد بالعملية الإرهابية بأشد الألفاظ التي تستحقها.

بيد أن البيان الذي صدر من النخبة المثقفة في المنطقة الشرقية الذي صدر تحت عنوان «سعوديون بل أقواس» يتميز ما بين كل تلك البيانات بما ينطوي عليه من دلالات مهمة لمضامين العبارات التي تم صوغها بعناية، والتي تعكس نضج وسعة أفق تلك النخبة السياسي في منظورها للحادث وتحليل مسبباته، ناهيك عن كونه من البيانات المشتركة النادرة الذي توقع عليها سيدات سعوديات إلى جانب الرجال. فالبيان أشاد برد الفعل الأمني والاجتماعي الحازم، بلا مواربة أو مساومة أو تنظير، أي ليس على النحو الذي يجري للأسف في بعض البلدان الخليجية التي تتعرض لمثل هذه الأعمال الإرهابية من قبل «مجهولين» ويروح ضحيتها مواطنون أبرياء ويتم التغطية عليها، بل ولا تلقى إدانة من مختلف رموز والجهات الدينية والسياسية التي تعكس النسيج الاجتماعي.

كما كرّر البيان في أكثر من فقرة تأكيده أن التنوع المذهبي مصدر إثراء لحضارة وثقافة الشعب، وليس مصدر إقلاق وتوتير وإقصاء، وطالب بعدم نبش بطون الكتب القديمة لاستحضار التباينات الفقهية بغرض التأجيج المذهبي في وسائل الإعلام وترك هذه المسائل للدوائر المختصة. وناشد رجال الدين كافة بعدم ازدراء من يختلف معهم فقهياً وطائفياً، كما طالب بتفعيل الهوية الوطنية الجامعة. («الشرق الأوسط»، 8/11/ 2.11).

سادساً: شاءت مصادفات جريمة الدالوة الإرهابية أن يكون ثلاثة من ضحاياها وضحايا الشرطة ممن يسترعون الانتباه والتأثر العاطفي للمتمعن في سيرة كل منهم، فالأول هو الطفل اليتيم محمد البصراوي، والثاني النقيب السعودي الشاب محمد العنزي وقد عاش هو الآخر يتيم الأبوين وترك وراءه أطفالاً صغاراً، والثالث وهو عادل الحرابة المعروف في قريته بكدحه طوال ساعات النهار من أجل توفير لقمة عيشه رغم نوبات مرض فقر الدم المنجلي الشديدة التي يمر بها. وقد عُرف الطفل البصراوي بجده ومثابرته في الدراسة وبصوته الشجي في ترديد الشيلات الحسينية، وخصوصاً الاهزوجة العراقية الحزينة المفضلة لديه التي يرددها دائماً في البيت والتي مطلعها «يمّه ذكريني من تمر زفة شباب»، وقد خصتها صحيفة «الحياة» اللندنية السعودية بعنوان في تغطيتها لسيرة حياة هذا الطفل اليتيم الشهيد («الحياة»، 6/11/ 2.14).

سابعاً: لما كان الحادث الإجرامي وقع في المنطقة الشرقية وهي أكثر المناطق قرباً للبحرين واشتراكاً معها في أواصر النسب والامتدادات العائلية والقبلية عدا الثقافة الشعبية الدينية وحتى التشابه اللهجوي، كان من الطبيعي أن يكون الشعب البحريني أكثر شعوب المنطقة تأثراً بالحادث، وخصوصاً أن بعض ضحاياه لهم امتدادات وجذور بالتراب البحريني على نحو ما أوضح ذوو الشهداء الملقبين بالمطاوعة، بأن جذور عائلاتهم المطاوعة تعود إلى البحرين التي هاجرت إلى الإحساء منذ أربعة قرون ونيف؛ وأن سكان القرية معظمهم ينتمون للمطاوعة، علماً بأن الصحافة السعودية لم تحابِ المجرمين في الكشف عن مدى بشاعة إجرامهم برش وجه الشهيد الحرابة بالأسيد بعد قتله بالرصاص، وهو ما يعكس نيران الحقد الطائفي المتأججة في نفوسهم المريضة.

ولئن نشرت الصحافة السعودية أن تداعيات ونتائج حادث الدالوة أظهرت بعض الثغرات الأمنية والإعلامية الخطيرة، ومن الثغرات الأولى أن عدداً ممن اُطلق سراحهم بكفالةٍ أو من خضعوا لبرامج المناصحة، كانوا ممن ألقي القبض عليهم وتورطوا في مذبحة الدالوة. أما الناحية الاخرى (الإعلامية)، فالينابيع الإعلامية والفقهية التي يتغذى منها الفكر الإرهابي لما يتم إحكام تجفيفها تماماً، إلا أن المقطوع به وكما عبّرت بحقٍّ بعض الأقلام السعودية، أن المشهد السعودي السياسي الداخلي، أمنياً وإعلامياً وثقافياً وفقهياً، قبل الدالوة لن يكون كذلك بعد الدالوة.

لقد نجحت الدولة السعودية في تطويق ذيول الحادث بكل أبعاده الأمنية والطائفية والاجتماعية، في إشارات المحبة والود التي ظهر عليها أبناء الدالوة في مسيرة التشييع، سواءً تجاه إخوتهم في المواطنة والعروبة والدين الذين يشاركونهم في الانتماء للتراب الوطني الواحد من منتسبي الجهاز الأمني، أو تجاه إخوتهم المواطنين من مختلف الفئات الذين تقاطروا من أغلب محافظات المملكة، وهذا لعمري واحدٌ من أهم الدروس التي يتوجب على بعض الدول الخليجية اتعاظه باعتباره شكلاً من أشكال جبر الضرر وتخفيف درجة الاحتقان الداخلي مهما كان شدة تعقيد الظرف الذي تجري خلاله أية جريمة إرهابية من سلاح ناري، فأن يأتي ولو متأخراً أو بعد تركه خلال جرائم إرهابية سابقة خيرٌ من التمادي فيه ولا يأتي مطلقاً.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4459 - الجمعة 21 نوفمبر 2014م الموافق 28 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:36 ص

      في الصميم

      هذا ما كان يدور في خلدي مؤخرا فحتى نقاشاتي مع الاخوة تدور حول هذا الموضوع، موضوع موفق و مرتب و مترابط

اقرأ ايضاً