العدد 4466 - الجمعة 28 نوفمبر 2014م الموافق 05 صفر 1436هـ

نحو تأبين يليق بمقام عبدالله خليفة

رضي السماك

كاتب بحريني

يا قبرُ إنكَ لو علِمت بِمن ثَوىَ .. فِيك استَطلتَ على القُصُورِ فَخَارا .. وارَيتَ عبدالله فاسمُ فإنًما .. وارَيتَ يَعْرُبَ سُؤدداً ونزِارا .. الشيخ جعفر الخطي (ت 1618).

في أربعينية الفقيد المثقف الراحل الكبير عبدالله على خليفة البوفلاسة، يُقيم رفاقه وأصدقاؤه حفلات تأبينية بهذه المناسبة في المؤسسات الثقافية والسياسية التي ينتمون إليها، مُضيفين بما تجود به قرائحهم من كلمات وقصائد رثائية جديدة. فكعادتنا نحن العرب، سياسيين ومثقفين، فإن مشاعرنا النبيلة الجيّاشة تجاه رموزنا الوطنية والمثقفة المعطاءة، للأسف لا تتفجر ينابيعها بغزارةٍ إلا بعد أن يغادروا دنيانا وليس وهم أحياء بيننا.

تمتد صداقتي بالفقيد الراحل 40 عاماً بالتمام والكمال، منذ تعرفت عليه لأول مرة صيف العام 1974، أثناء دراستي الجامعية في القاهرة، حتى رحيله الفاجع المؤلم في خريف العام الجاري 2014، وأخذت هذه العلاقة تتعزز منذ زيارته للقاهرة خلال ربيع العام 1975، بصحبة الصديقين النائبين الوطنيين السابقين محسن مرهون والمرحوم محمد جابر صباح، وكنا حينئذٍ طلبةً في فورة الحماسة الشبابية المبكرة مأخوذين بنشوة تكلل ملحمة كفاح الشعب الفيتنامي بالانتصار على أميركا، ومزهوين أيضاً بالأداء البرلماني الوطني الرائع الذي تؤديه كتلة الشعب داخل البرلمان عبر تصديها الجسور للفساد والاستبداد، علماً بأن الفقيد لعب مع شقيقه عيسى خليفة والصديق الراحل ناصر الذوادي دوراً محورياً في قيادة الحملة الانتخابية للنائب مرهون في دائرته بمنطقة الحورة والقضيبية المعروفة بانتماء معظم سكانها إلى الطائفة السنية الكريمة إبان الفترة الذهبية للمد الوطني، وكمون وانحسار الطائفية في الوطن.

ومع أن علاقتنا توطدت في البحرين إلا أنها شهدت فترات من الانقطاع القسري، إما بسبب فترة اعتقاله بعد حلّ برلمان 1973، أو بسبب فترتي اعتقالي في أواسط الثمانينيات ثم من أواخر الثمانينيات إلى أوائل التسعينيات، أو أحياناً لأسباب قاهرة خارجة عن إرادتنا. ولا تخلو لقاءاتنا، كالعادة، من حوارات ساخنة، لكنها لا تفسد علاقتنا الحميمة. وكان آخر هذه الحوارات وسط الحشود الجماهيرية الصاخبة، وامتد لساعات طوال على الرصيف الدائري للنصب الأبيض الشامخ الذي يحيطه العشب الأخضر من كل جوانبه ولا تغادره أسراب الحمام طوال ساعات النهار حتى اقتلعت ذلك النصب البرئ العاصفة التي هبت في منتصف مارس/ آذار 2011.

وكان لتلك التداعيات تأثير بالغ على نفسيته وأدّت إلى تدهور صحته سريعاً بعد مداهمة المرض الخبيث جسده النحيل على حين غرة، وظلّ يصارعه بصمود ورباطة جأش حديدية أكثر من عام ونيف، هو الذي عاش وكرّس حياته من أجل سعادة ووحدة شعبه وتحرّره من الاستبداد والاستغلال، ومن أجل حكم نفسه بنفسه، ليرى في سني حياته الثلاث الأخيرة كيف تمكّن الآخرون من شطره إلى شطرين، بل وليرى حتى أعز الناس إليه من رفاقه وأصدقائه وقد اخترقت مناعتهم شظايا ذلك التشطير الطائفي البغيض بهذا القدر أو ذاك، دع عنك من تساقطوا في مستنقع الانتهازية والانتقال إلى صفوف الآخرين بذرائع علمانية واهية.

وُلد الفقيد الراحل عبدالله في أسرة تنحدر من واحدة من أعرق القبائل العربية، ألا وهي قبيلة البوفلاسة، حيث تتوزع أفخاذها وعشائرها وعائلاتها على امتداد الجزيرة العربية. ولأسباب سياسية اضطر جدّه خليفة للهجرة من دبي إلى البحرين في أوائل القرن الماضي، حيث وصلها مبحراً بسفينته الصغيرة وحطّ رحاله في مدينة الحد التي تزوّج فيها وأنجب أباه (علي). وسرعان ما لقي الجدّ حتفه في حادث مأساوي فاجع إثر سقوط خشبة شراع سفينته على رأسه في ظروف غامضة. وكان والده علي لا يتجاوز الأربع سنوات حيث عاش بعدئذٍ يتيم الأب في كنف ورعاية أمه. وما أن شب الوالد حتى التحق للعمل في بابكو وعمره أقل من عشرين عاماً. وبغية تسهيل وصوله اليومي إلى مكان عمله بعوالي اضطر إلى الانتقال للسكن في منطقة القضيبية والحورة، وفي هذه المنطقة وُلد فقيدنا الراحل وتفتحت مداركه منذ نعومة أظفاره على مجتمع هذه المنطقة الذي يعجّ بالتناقضات الطبقية الصارخة: بضعة قصور فخمة منيفة مزوّدة بالكهرباء والماء ومحاطة بالحدائق الغناء الوارفة الظلال وتحرسها قوات الأمن، ويسكنها علية القوم، وليس بعيداً عنها أحزمة من بيوت الصفيح والسعف والأخشاب البالية التي تسكنها جمهرة واسعة من العمال وسائر البؤساء والمعدمين، بلا كهرباء ولا ماء.

وكان الوالد واحداً من سكنة هذه البيوت قبل أن تذهب جميعها في كارثة حريق تم تعويضهم عنها ببيوت إسمنتية أقل بؤساً، وعُرفت ببيوت «اللينات». وفي مناخ هذه البيئة الاجتماعية تشكّل الوعي الفطري الطبقي الأول لفقيدنا الراحل، وتدعّم تثقيفه الذاتي علمياً باطلاعاته المعرفية الأولى واتصاله بمناضلي جبهة التحرير الوطني البحرانية، حيث ارتقى سريعاً إلى صفٍ من صفوفها القيادية وشارك في انتفاضات شعبه.

ولعل عبد الله خليفة من المثقفين الموسوعيين العرب القلائل الذين عبّروا عن آلام ومظلومية الطبقات الفقيرة من عمال وفلاحين وكادحين في مختلف الأجناس الأدبية التي نبغ فيها من قصة ورواية ونقد أدبي بمختلف ألوانه، ومقالة ودراسات سياسية. وظلّ الراحل عصامياً طوال حياته عزيز النفس رغم تعطله عن العمل خلال فترات مختلفة، لعل أقساها غداة خروجه من المعتقل، لكن قلمه لم يعرف أبداً المساومة أو المهادنة، وحتى الصحف التي رثته غداة موته وترك بصمات في تطوير صفحاتها الثقافية لطالما عانى من جحودها وتهرّبها من توظيفه في فترات تعطله عن العمل، فضلاً عن معاناته المريرة الصامتة من توقيف العديد من مقالات عموده اليومي لأسباب جلّها مزاجية التقدير، لا علاقة لها البتة بهامش الرقابة المتاح.

وقد تميز قلمه بالنقد الجريء حتى للفكر والحركة اللتين ينتمي إليهما بما يراه من سلبيات وثغرات تعتور مسيرتهما، ولهذا السبب لم يكن غريباً أن ينفض من حوله الكثير من رفاقه الذين لم يتحملوا صرامة نقده. كما كان محاوراً ناقداً عنيداً يبز بعض المفكرين والأكاديميين العرب الذين يبدون انزعاجاً من نقده لما تمتلكه كتاباته من جرأة وتماسك في أطروحات منطق المجادلة معهم، أياً كان اتفاق المرء أو اختلافه معه فيها.

وعُرف الراحل بغزارة إنتاجه، فمن القصص القصيرة أنجز سبعاً، ومن الأعمال الروائية ما يُقارب عشرين رواية، ومن الدراسات الفلسفية التاريخية والنقدية أنجز خمساً، أهمها «الاتجاهات المثالية في الفلسفة المثالية العربية الإسلامية»، وصدرت في مجلدين والمجلد الثالث ينتظر الطبع. وقد استلهم فيها العمل الموسوعي الكبير للمفكر السياسي التراثي اللبناني الراحل حسين مروة. بيد أن الفقيد خليفة ترك وراءه ما يُعادل هذه الأعداد تقريباً في كل تلك المجالات، لكنها لم تزل مخطوطات لم ترَ النور، ذلك أن ما جمعه من بضعة آلاف من الدنانير على مدى عشرين عاماً من كدحه الذهني الصحافي المضني لطبعها تباعاً، لم يدر بخلده البتة أنه سيستنزفها في علاجه خلال رحلة مكابدته للألم وصراعه المرير مع السرطان. وكان آخر السطور المؤثرة التي كتبها في الأيام الأخيرة من حياته وهو على فراش المرض: «يريد لكتبه أن تظهر ورواياته أن تحلق، ولكن لا أحد يساعد، ودور النشر كائنات خرافية مصّاصة للدماء. لماذا يموت ولم يكمل مشروعاته؟».

كان يتألم وهو على فراش المرض، ليس لاستنزاف تركته المالية الشحيحة على علاجه، بقدر ما يتألم لنفادها دون أن يتركها لأخيه ليتولّى طباعتها. وكتب مستشرفاً دنو اللحظات الأخيرة من حياته: «تكلفة العملية زادت على 12 ألف وخمسمئة دينار، تتوقف الأدوية والكشوف حتى يضع دفتره البنكي في يد أخيه ليراه هذا لأول مرة ويسحب منه ويقذف المال في فم المستشفى النهم...».

ولعل من حسن حظ الفقيد وساحتنا الثقافية، أن له شقيقاً يشعر بالمسئولية الوطنية والأخوية العليا بقيمة تركة أخيه العلمية والأدبية، ألا وهو الصديق عيسى خليفة، الذي بادر بُعيد رحيله إلى البحث يومياً لساعات طوال، عمّا خلّفه أخوه من أعمال ومشاريع كتابية لم تُطبع وعكف على توضيبها وتصنيفها وتبويبها تبعاً لموضوعاتها بحكم خبرته المهنية الأرشيفية الطويلة في الصحافة.

ولعل أفضل ما يُقدّم في حفلات تأبين تليق بهذه القامة الثقافية والسياسية التي افتقدناها... هو التداعي لنشر أعماله كافةً بالتعاون مع المؤسسات الثقافية المحلية والخليجية والعربية ودور النشر التي تولّت طباعة أعماله السابقة.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4466 - الجمعة 28 نوفمبر 2014م الموافق 05 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 3:16 ص

      الله يسكنه في فسيح جناته

      سلمت يدك أستاذ رضي على هذا المقال الرائع الذي يسلط الضوء على الراحل عبدالله خليفة ابن القضيبية ،، رحمة الله عليه وعلى جميع موتى المسلمين

    • زائر 2 | 3:13 ص

      رحل ابن القضيبية

      رحمة الله عليه

    • زائر 1 | 11:22 م

      مقال جميل

      شكرًا اخي رضي لمقالك الجميل حول الراحل الذي حمل الفكر النير لعقود من الزمن وعظم الله أجرك ، ونحن سنفتقده دائماً ع ع

اقرأ ايضاً