العدد 45 - الأحد 20 أكتوبر 2002م الموافق 13 شعبان 1423هـ

ثمن المستقبل

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

هل يكون مجازفة القول بأن المستقبل سيكون لصالح العرب؟ هل نوع من التمني القول بأن الفلسطينيين سيحققون دولتهم؟ وان اسرائيل تسير في نهايتها؟ اعرف ان مثل هذا الكلام سيواجه باعتراضات وسخرية من قبل البعض، وتسميته بأوصاف مثل «السلفية الرومانسية»، باعتبار ان مثل هذا الكلام سمع كثيرا إبان خمسينات وستينات القرن الماضي لتكون النتيجة هذا التمزق العربي والمظلة الاميركية التي ترفرف راياتها على المنطقة والعربدة الاسرائيلية التي لا تجرؤ امامها أية دولة عربية ان تعلن القدرة على وقفها او حتى التهديد بمواجهتها... بل والاعلان فقط من الجانب العربي بالتمسك بالسلام كخيار استراتيجي وحيد ليس هناك بديل عنه، في وقت يغري الضعف العربي التمادي الاسرائيلي والانحياز الاميركي ورد الفعل السلبي من جانب المجتمع الدولي. كيف يكون الحديث عن المستقبل العربي والفلسطيني في آن واحد؟... وكل هذه الكمية من الدم الفلسطيني الحار الذي يسفك يوميا... ومشهد الموت للطفل الفلسطيني كما الأم والشيخ الكبير يتجسد على شاشات التلفاز ليحرك غضبا تعبر عنه مظاهرات لا يستجيب لها أحد ولا يحصد من ورائها الا المزيد من الاحباط وبح الحناجر واستهلاك شعارات فقد الكثيرون ادراك معانيها من كثرة تردادها من دون طائل.

من أين يأتي هذا التفاؤل بالمستقبل؟... وكل هذه الثروات العربية التي استنزفت حتى أصبحت موازنات دول الثراء العربي نفسها تعاني من العجز وصارت الديون تجتاحها... فما بالنا بدول الفقر العربي؟

كانت الجماهير الغاضبة اليوم تدرك انه لم يعد هناك مكان لمسيرة الثورات العربية التي اجتاحت المنطقة وطردت الامبراطوريات الاستعمارية التي كانت جاثمة على دولها لعقود وسنين طويلة، سيما وان الكثير من تلك الثورات اجهضت وحرفت وسارت على النقيض من الاهداف التي قامت من أجلها...

إذن على ماذا هذا الاستناد في رؤية المستقبل؟

ربما يثير العجب قولنا: ان الاستناد في رؤية المستقبل ينطلق من معالم الحاضر وخبرة الماضي... فرؤية المستقبل تستند على:

- الألم الغالب والغلاب الذي ينز في القلوب لينكش في جروح الماضي مثلما يستنفر من جروح الحاضر اعصار الغضب الذي لن يكون فورة عابرة او موسمية مرتبطة بمشهد حدث بعينه او فظائع محددة مهما كانت مرارتها في النفوس وتأثيرها على العقول.

- الصمود العظيم الذي انتصب وينتصب على قدميه في أكثر من موضع من ارض العروبة على رغم كل محاولات التيئيس والحقن التي حاولوا ان يحقنوا بها الشعب العربي لتخديره وتقليص ردود فعله.

- قافلة الرجال والنساء والفتيان والفتيات الذين بذلوا ارواحهم من أجل وقفة عز.

- الغضب الذي لم ينطفئ أوار جذوته في نفس كل عربي.

- الثمن الذي قدمناه لبلوغ المستقبل.

ولنتأمل:

فحياة الشعوب تعلمنا ان لا شيء يضيع... قد تبدو بعض سنوات التاريخ عقيمة ولكن السنوات العقيمة تعطي دفعا مضاعفا لسنوات الخصب والنماء... وحياة الشعوب الحية دائما هي الغلابة. وحكمة التاريخ الانساني تؤكد انه لا توجد حركة دافقة أعادت مجرى التاريخ وحققت اهدافها من دون بحار من الدم التي سالت لتنظيف مسارات الوجود الانساني.

- الثورة الفرنسية لم تأت الا من خلال بحور الدم التي سالت في اوروبا كلها... وفي اعقاب حروب شهدتها الامارات الاوروبية بأسرها وعلى مدى أكثر من قرنين... بل ان الثورة الفرنسية ذاتها عمدتها مجازر شهدتها فرنسا برمتها.

ترى هل حكمة التاريخ ان تسيل كل هذه الدماء حتى تحقق الشعوب مستقبلها؟

- اوليفل كروميل لم ينهض بالكومنولث البريطاني الا بعد ان صارت الدماء تجري كالسواقي في لندن وفي المدن البريطانية.

- اوروبا بأسرها عاشت ثلاثة قرون لتبلور مقدمات وحدتها، وخاضت في سبيل ذلك عدة حروب صغيرة وفجرت حربين كونيتين: وغطت نصف الكرة الارضية تماما بالدماء قبل ان تصبح مقدمات هذه الوحدة حقيقية في طريقها لأن تكون شاخصة كاملة.

ليس القصد من الاستشهاد بما حصل في أوروبا هو الخلط بين التجربة الاوروبية والتجربة العربية ولا المقارنة بينهما، مع ان المقارنة في جانب منها لصالحنا... كيف نفسر ذلك؟

- نحن لم نطعم تجربتنا ثمارا سرقناها من أحد بينما اطعمت أوروبا تطورها كله عرق ودماء شعوب عالمنا الثالث، لقد عاشت اوروبا الظاهرة الاستعمارية ونمت على حساب شعوب العالم الثالث قبل ان تتحول إلى ظاهرة امبريالية تنفس ازمتها الحادة على حساب كل رئة الشعوب الفقيرة دون ان تترك لها حيزا للتنفس.

- نحن نعكس كل تناقضات الكون على ارضنا ونعيش تحديات خارجية أكبر بكثير من تحدياتنا الداخلية، في حين ان اوروبا لم تعش غير تناقضاتها الداخلية وتحدياتها الداخلية... حتى ان بعض تناقضاتها الداخلية صدرتها الينا... او ليس ما عرف بالمشكلة اليهودية هي نتاج اوروبي صدر الينا بالمشروع الصهيوني... من هنا تبرز القناعة بعظمة امة العرب... وهذه العظمة لن يستطيع أحد ان يدركها إلا عندما يتأمل حجم الدماء والتضحيات التي قدمتها على مسار قرن كامل من الزمن. فلقد تكالبت عليها كل ظواهر الشر في العالم ومارست الاقتطاع الجغرافي والاحتلال الاستعماري والاحلال الاستيطاني والاستلاب النفسي والغزو الفكري والتسميم السياسي والتشويه العقائدي... ومع ذلك لم تستطع ان تهضم حقيقتها ومضمون وجودها وفاعلية دورها.

فهل توضح مقصد الاستشهاد بالتجربة الاوروبية؟

على كل حال. القصد من ذلك هو الوصول إلى نتيجة مؤادها: اذا كان التاريخ هو الذي يملي على شعب ما دوره، فإن التضحيات هي التي تعطي لشعب ما مستقبله.

ووفق للمدركات اعلاه، فان المشهد القائم في الاراضي المحتلة قد اسقط نظرية الضغط السياسي لايجاد مخرج للصراع العربي الاسرائيلي، وقد اخلت هذه النظرية مواضعها لصالح استمرار المقاومة... والاخلاء لم يتم في وعي الشارع العربي الغاضب بل ايضا في الوعي الباطن لصنّاع القرار في الدول العربية... بالطبع صناع القرار لا يستطيعون حاليا الاعتراف علنا بهذه الحقيقة، لان ذلك سيستوجب اعتماد البديل الآخر... وفي ظل اختلال موازين القوى سيحاولون التهرب من اعتماد بديل المقاومة... لكنهم سيضطرون إلى مواجهة استحقاقاته ولو بعد حين. واذا كان بعض صناع القرار لا يزال يتشبث بالدور الاميركي، فإن من المؤكد لن يمر وقت طويل حتى يدرك ان تشبثه ليس في محله ما دامت اميركا خاضعة كلية للارادة الاسرائيلية.

وارتباطا بذلك، فإن صانع القرار كما رجل الشارع في العالم العربي باتا اكثر ادراكا ان السبيل الافضل لمواجهة الاختلال في موازين القوى يقوم على خيار المقاومة الشعبية وفق اسلوب «اعياء الفيل»... بمعنى توجيه ضربات مستمرة ومتواصلة للوجود الصهيوني وان كانت تبدو صغيرة وغير مؤثرة فإنها في الحصيلة النهائية ستؤدي إلى اعيائه... نموذج المقاومة في جنوب لبنان يمكن ان يكون النموذج المستعار القابل للتوسع والتطور. ونموذج العمليات الاستشهادية بدوره قابل للتطور... وهنا علينا الادراك ان التقبل بهذه العمليات الاستشهادية بدأ يتسلل إلى ذهن الرأي العام العالمي على خلفية صورة القهر والوحشية والمجزرة التي مارسها الاحتلال الصهيوني وعلى مرأى من الجميع.

ويقينا ان القدرة على التضحية والصمود وتصعيد الانتفاضة من خلال تفعيل الدعم الحقيقي لها يمكن ان يشكل المفتاح للوصول إلى لمستقبل... فالمؤشرات داخل اسرائيل تشير حتى الآن إلى تناقص الهجرة إلى اسرائيل مقابل تصاعد الهجرة المعاكسة منها. بالمقابل تصعيد وتائر المقاومة والعمليات الاستشهادية سيعمق من هذه المؤشرات وبالتالي ستعطي فعلا حاسما للقنبلة الديموغرافية الفلسطينية.

وتفعيل الدعم الحقيقي للانتفاضة يظل مرهونا بالشارع العربي أكثر منه بالقيادات العربية... فالشارع بضغطه وغضبه قادر ان يجبر زعماءه على تحقيق الدعم والتواصل مع الانتفاضة. فالخشية مما ان ينجبه غضب من تقلصات وتداعيات داخلية سيجعل القيادات تأخذ بناصية اعتماد وسائل الضغط الاقتصادي والعسكري والسياسي التي حاولت حتى الآن التملص من اعتمادها

العدد 45 - الأحد 20 أكتوبر 2002م الموافق 13 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً