العدد 4500 - الخميس 01 يناير 2015م الموافق 10 ربيع الاول 1436هـ

الثقافة الرفيعة في الدولة العربية

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

تحدث الكثيرون مراراً عن سوء استعمال فوائض الثروة البترولية والغازية في أرض العرب، وعلى وجه الخصوص في دول الخليج العربية. وقد أشار البعض إلى أهمية الاستفادة من تلك الثروات في بناء تنمية إنسانية مستدامة شاملة. وكان التركيز على الأهمية القصوى لبناء اقتصاد إنتاجي ومعرفي قادر على توليد ثروة دائمة في المستقبل لتحلّ محل الثروة البترولية – الغازية المؤقتة، التي إن آجلاً أو عاجلاً، ستصل إلى مرحلة النضوب.

كما ركّز البعض على أهمية بناء إنسان المستقبل من خلال التزام أنظمة الحكم بتوفير خدمات رفيعة المستوى في الصحة والتربية والتعليم والإسكان والخدمات الاجتماعية المتعدّدة الأشكال، والحياة السياسية المدنية الديمقراطية.

لكن، في اعتقادي، هناك ضرورة لإبراز أكبر ولصوت أعلى لضرورة التزام أنظمة الحكم بتوفر شتى أنواع التواجد الثقافي الرفيع المستوى، الذاتي منه والمنتقى من ثقافات الآخرين. ونحن نعني بالرفيع المستوى ذلك النتاج الثقافي غير السطحي المبتذل وغير العادي العابر، وإنّما التعبير الثقافي الذي وراءه جهد هائل ذهني أو عاطفي أو روحي يرنو لصعود وتقوية وتعميق النبل في إنسانية الإنسان.

الإنفتاح على الثقافة الرفيعة والاستمتاع بها والتفاعل معها يحتاج إلى تهيئة منذ الصغر، عن طريق تعليم غير تلقيني مملٍّ مكرَّر منغلق سطحي، وإنما تعليم تفاعلي إبداعي يغني وينضج ويسمو بذهن ومشاعر وروح الطفل واليافع.

في المدرسة والجامعة يجب أن يتمّ التعرف على الموسيقى الكلاسيكية العالمية، من الشرق والغرب والجنوب، وعلى مسارحهما تشاهد التمثيليات الجادّة العميقة المبهرة، وفي قاعات النشاطات يستمع إلى الشّعر الجزل المنعش وتشاهد روائع الرّسم والنّحت، ويناقش ما تقوله أحداث الرواية وتعرض براكين وسيول المنجزات العلمية والتكنولوجية الكبرى. مطلوب أن ينبهر الطالب وأن يحلّق في السموات العلى.

الإهتمام بالثقافة الرفيعة إذاً يتطلب إصلاحاً جذرياً لمكوّنات ووسائل وأشخاص العملية التربوية برمّتها. وهذا سيعني أن لا تسلّم التربية قط إلى كلّ من هبّ ودبّ، سواءً في الوزارات أم في المدارس والجامعات.

لكن المهمّة الثقافية للدولة لا تقف عند تلك الحدود، فمواطن المستقبل يحتاج أن ينتقل من اتصاله ببدايات الثقافة الرفيعة في المدرسة والجامعة، إلى مرحلة الانغماس فيها ومتابعة تطورات إنتاجاتها بقية عمره. وهذا غير ممكن بالاعتماد فقط على إمكانيات وجهد الفرد نفسه. هنا يأتي دور الدولة في حمل مسئولياتها الثقافية ذات المستوى الرفيع. أما الثقافة البليدة المسطّحة العابرة المتوجّهة إلى أحطّ ما في الإنسان من فكر ومشاعر وغرائز، من مثل مهرجانات الأغنيات الصاخبة الهابطة أو التمثيليات المستجدية للضحك الاصطناعي، فإنها ليست بحاجة لمساعدات الدولة، إذ أن الأمية والجهل والتخلف والعلاقات العامة العولمية كافية لإيقافها على أرجلها. الحاجة للدولة ستكون من قبل فرق الموسيقى والغناء والتمثيل الجادة غير القادرة على منافسة السخف والبلادات والبدائية.

ومع ذلك فإسناد مؤسسات الثقافة الرفيعة الجادة سيكون إسناداً لمجموعات صغيرة من الشعب، ممّن يرغبون في مثل تلك الثقافة. هنا نصل إلى طرح السؤال التالي: هل من طرقٍ لنشر الثقافة الرفيعة لتصبح غاية غالبية كبيرة من المواطنين، يتذوقونها ويعشقونها ويسمون معها؟ جزء من الإجابة على هذا السؤال سيعتمد على استجابة الدولة لما أود طرحه باختصار شديد في عمود اليوم.

في دول العالم المتقدمة يستمع الإنسان لمحطات إذاعية ويشاهد محطات تلفزيونية متخصّصة في نشر الثقافة الرفيعة المستوى. وهي عادة محطات مسنودة من قبل جهة رسمية في الدولة. والسؤال هو: ما الذي يمنع دول اليسر العربية من استعمال جزء يسير من فوائض الثروات لإقامة مثل تلك المحطات الإذاعية والتلفزيونية، على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، من أجل احتضان ونشر الثقافة الرفيعة المستوى كجزء من تنمية الإنسان العربي التي تدّعي جميع الأنظمة العربية بأنها في قلب اهتماماتها؟

في تلك المحطات تقدّم الموسيقى الكلاسيكية العربية والعالمية، تقرأ القصص القصيرة والمقالات الفكرية الموجزة، تشاهد المسرحيات غير الهابطة العربية منها والعالمية المترجمة، تناقش وتحلل الأفكار الإيديولوجية السياسية، تجري المقابلات مع المفكّرين والكتّات والعلماء العرب، تطرح التوجّهات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الجديدة التي يموج بها العالم السّريع الحركة والتطوّر وتحلّل وتنقد وتقبل أو ترفض، تناقش أطروحات الأديان والمذاهب الفقهية بموضوعية ودون تزمُّت ومن خلال فهم إنساني واع... إلخ من تجلّيات ثقافية لا حصر لها ولا عد.

سيقال إن أكثر ذلك مبثوث في المحطات الوطنية والفضائية العربية. والجواب هو أنه مجزّأ ومتباعد وغير دائم ومحكوم بتوجهات هذا المسئول أو ذاك.

المطلوب برامج مكثّفة ومتكاملة ومتناغمة مع بعضها البعض، تتوجّه إلى مستويات مختلفة من الفكر والروح والمشاعر في الإنسان العربي لبنائه الثقافي المتدرّج نحو السمو فالأسمى والعميق فالأعمق.

هذا يتطلب العديد من المحطات التي تشرف عليها مؤسسات ثقافية مستقلة يقوم على إدارتها مثقفون حقيقيون ملتزمون قادرون على إبعادها عن الزبونية السياسية والفهلوة الفكرية والفنية.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 4500 - الخميس 01 يناير 2015م الموافق 10 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً