العدد 4595 - الإثنين 06 أبريل 2015م الموافق 16 جمادى الآخرة 1436هـ

«أبو القاسم محمد كَرّو»... فقيد الثقافة العربيّة

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

قد يكون من باب الصدف أن تتزامن وفاته مع الدورة الحادية والثلاثين لمعرض تونس الدولي للكتاب، الحدث الثقافي السنويّ الكبير الذي أقيم هذه السنة فيما بين 27 مارس/ آذار و5 أبريل/ نيسان 2015، وقد يكون ذلك تكريماً إلهيّاً لتسعة عقود من الوفاء للكتاب حين يتوفّى الأجل المحتوم الكاتب والأديب والباحث والمؤرّخ والمفكّر السياسي التونسي، أبوالقاسم محمد كرو، يوم السبت الماضي (4 أبريل)، عن عمر يناهز 91 عاماً، بالتزامن مع آخر أيام المعرض الدولي للكتاب لِتفْقِدَ الساحة الثقافيّة والأدبيّة التونسيّة والعربيّة أحد أعلامها. وقد وافاه الأجل بعد معاناةٍ مع المرض الذي ألزمه الفراش منذ مدة وحال دون ممارسة نشاطه الأدبيّ.
الفقيد الكبير من مواليد مدينة قفصة (‬الجنوب الغربي ‬من الجمهورية التونسية) سنة 1924، درس في تونس العاصمة ومنها توجّه إلى بغداد حيث تخرّج من دار المعلمين العليا سنة 1952، ودرس مع أشهر شعراء العراق مثل عبدالوهاب البياتي ونازك الملائكة. ثمّ عاد كَرو إلى تونس قادماً من العراق مُحمَّلاً بتجربة ثقافيّة وسياسية ثرية، وعمل في وزارات التربية والثقافة والخارجية، دون أن يمنعه ذلك من الاهتمام بالكتابة والنشر؛ فقد بعث إثر عودته مباشرةً سلسلة «كتاب البعث» التي أخصبت الساحة الثقافية التونسية منتصف القرن الماضي. ثمّ واصل دراسته وتحصّل على درجة الدكتوراه سنة 1975 بجامعة الجزائر.‬‬
وقد نذر الراحل حياته للفكر والقلم والوطن، وخدم الثقافة العربيّة والتونسيّة، وأصدر سلسلة كتب متنوّعة التزم فيها بقضايا الأمّة العربيّة ودافع عنها. إنّه بحقٍّ واحدٌ من الأدباء التونسيّين الّذين أثرَوْا المكتبة الوطنيّة والعربيّة بأكثر من 60 كتاباً مطبوعاً و20 مخطوطاً، وشارك في كتابة أكثر من 33 كتاباً وله من المؤلّفات الصغيرة 8 كتيّبات، إلى جانب ما يفوق عن 100 دراسة وبحث نُشرت في كتب ومجلات تونسيّة وعربيّة. وقد ترجمت بعض هذه الأعمال إلى اللّغات الإنجليزيّة والفرنسيّة والإسبانيّة والروسيّة والألمانيّة.
وارتبط اسم الفقيد أبوالقاسم محمد كرّو، أيّما ارتباطٍ بالشاعر أبي القاسم الشابّي؛ إذْ كان كَرّو وراء نشر أعماله في الخمسينيات، ثمّ أشرف على نشر أعماله الكاملة بمناسبة ستينيّة الشابّي. غير أنّ اهتمام الفقيد الراحل لم يقتصر على الشعراء في وطنه وإنما تعلّقت همّة كَرّو بالتراث العربيّ الإسلاميّ، وتفانى في التعريف بالعلماء والمفكّرين العرب من خلال ما أصدره من كتب تَحفَظ ذكرهم وتردّ لهم اعتبارهم؛ فقد أصدر على سبيل الذكر لا الحصر، كتباً عن ابن خلدون وابن منظور والشابّي وطه حسين وغيرهم.
كما شارك في‬ العديد من المؤتمرات الأدبيّة والثقافيّة والعلميّة، ‬وهي‬تزيد عن المئة، و‬له حوالي ‬ألْف حديث إذاعيّ ‬وألْف مقالة منشورة في‬الصحف والمجلات التونسيّة والعربيّة.‬ وأسّس الفقيد العديد من الجمعيات الثقافية، وشغل العضويّة في‬مجالس إدارية لجمعيات ودور نشر عديدة، كما كان عضواً مراسلاً للعديد من الهيئات العلمية في تونس والوطن العربي.‬‬‬‬‬‬‬‬
وقد انتصر الفقيد للتجديد ولتجارب الشباب في العديد من المجالات، بل توجّه إليهم بالقول: «حقِّقُوا ما لم نستطع أن نُحقِّقه... حقِّقُوا التقدّم لهذه الأمّة وهذا لا يأتي إلا من خلال العلم... إلى الأمام يا أبناء أمّتي الغيارى. لا وقت للتراجع والجمود. طموحنا يجب أن يبقى دائماً إلى الأمام».
لقد كان الفقيد مختلفاً عن غيره من مثقّفي جيله، متمرداً على المؤسسة الثقافيّة، فقد سئل الأديب كرّو ذات مرّةٍ لو كان وزيراً للثقافة فماذا سيفعل؟ وجاءت إجابته عن هذا السؤال بقوله: «سأغلق وزارة الثقافة لأنّنا لسنا بحاجةٍ إليها بل إلى الحريّة كمبدعين». لقد اعتبر وزارة الثقافة فكرةً سوفياتيّةً شيوعيّةً بما يعنيه ذلك من لجمٍ لحريّة التعبير. ولقد كان الفقيد من المغضوب عليهم زمن حكومة الوزير الأسبق محمد مزالي في ثمانينيات القرن الماضي، ولم يتم تعيينه في منصب مستشار ثقافي (سنة 1982) إلاّ بعد أن هدّدت «اليونسكو» وزير الثقافة آنذاك، بعدم صرف منحة قدرها 500 ألف دولار لفائدة تونس إن لم يتمّ تعيين الفقيد كمستشار، وفعلاً وقع تعيينه في ذلك المنصب.
وبقدر ما جحد بعض رجال السياسة ومَن حولهم من أشباه المثقفين قيمة هذا العملاق، كان الفقيد الراحل سخياً سخاء العظماء؛ فقد أهدى مكتبته الخاصة، والتي جمع فيها أمهات الكتب والمراجع القيمة والدراسات والبحوث على مدى أكثر من ثمانية عقود، إلى كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، إحدى أعرق الجامعات في تونس والوطن العربي، ليكون ذلك شاهداً على عطاء الرجل وسخائه اللامحدود لوطنه وللثقافة وللأجيال اللاحقة من أبناء وطنه.
رحم الله أبوالقاسم كرُّو... فقد كان أحد علامات الثقافة التونسية المعاصرة.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 4595 - الإثنين 06 أبريل 2015م الموافق 16 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 2:37 م

      رحم الله الرجل كان ذا رأي سديد

      قد كان الفقيد مختلفاً عن غيره من مثقّفي جيله، متمرداً على المؤسسة الثقافيّة، فقد سئل الأديب كرّو ذات مرّةٍ لو كان وزيراً للثقافة فماذا سيفعل؟ وجاءت إجابته عن هذا السؤال بقوله: «سأغلق وزارة الثقافة لأنّنا لسنا بحاجةٍ إليها بل إلى الحريّة كمبدعين».

    • زائر 4 | 9:19 ص

      سخاء العظماء؛

      فقد أهدى مكتبته الخاصة، والتي جمع فيها أمهات الكتب والمراجع القيمة والدراسات والبحوث على مدى أكثر من ثمانية عقود، إلى كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، إحدى أعرق الجامعات في تونس والوطن العربي،

    • زائر 3 | 4:51 ص

      خيرا ما قال:

      وقد انتصر الفقيد للتجديد ولتجارب الشباب في العديد من المجالات، بل توجّه إليهم بالقول: «حقِّقُوا ما لم نستطع أن نُحقِّقه... حقِّقُوا التقدّم لهذه الأمّة وهذا لا يأتي إلا من خلال العلم... إلى الأمام يا أبناء أمّتي الغيارى. لا وقت للتراجع والجمود. طموحنا يجب أن يبقى دائماً إلى الأمام».

    • زائر 2 | 3:27 ص

      «أبو القاسم محمد كَرّو»... فقيد الثقافة العربيّة

      شكرا على المقال فجميل أن نعرف ولو القليل عن موز الثقافة في الوطن العربي وخاصة المغرب العربي
      شكرا

    • زائر 1 | 12:33 ص

      للوطن وللثقافة رجال لا بد أن يجفظ ذكرهم

      رحم الله أبوالقاسم كرُّو... فقد كان أحد علامات الثقافة التونسية المعاصرة.

اقرأ ايضاً