العدد 4597 - الأربعاء 08 أبريل 2015م الموافق 18 جمادى الآخرة 1436هـ

التعذيب لم يعُد تاريخاً ولم ينتهِ

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

انتهى الجزء الرابع من قراءة واستعراض كتاب الباحث والمفكِّر العراقي هادي العلوي «من تاريخ التعذيب في الإسلام»، إلى الاكتفاء بتعداد بعض من أشكال التعذيب في ذلك الجزء، من دون أن نورد روايات وممارسات حولها، ومن أشكاله، التكسير بالعِيدان الغليظة، وقرْض اللحم بالمقاريض حتى الموت، وإخراج الروح من طريق الدُبُر بدفن الرأس، وقلع الأظافر، والتعذيب بالقصَب، والتعذيب الجنسي، ولذلك تناول نأتي عليه؛ بحسب المصادر التي استند إليها العلوي، ومصادر أخرى.

على أن ما يُلاحظ في استنادات العلويِّ، تلك المزاجية في تثبيت روايات، والنفي والتشكيك في روايات أخرى، وإن تعدَّدت مصادرها، مع اختلاف التفاصيل فيها، من دون أن يُحيلنا إلى مبرِّرات تشكيكه، تاركاً الأمر مُعلَّقاً في كثير من فصول كتابه.

خالد القسري الذي ذبح الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى وفي المسجد، كانت نهايته بشعة، بسبب «مخالفات صدرت منه ضد الخليفة»، ويستند العلوي إلى كتاب «نسب قريش» للزبير بن بكَّار في الجزء الأول منه، الصفحة 280، وكانت طريقة موته على النحو الآتي: «وُضع عُود غليظ على قدميه، وقام عليها عدد من الجلادين فكُسرت قدماه، ثم وُضع العود في ساقيه فكُسرت بالطريقة نفسها، ثم نُقل إلى فخذيه ومنهما إلى حقويه (خصْريْه)، وانتهى العمود إلى صدره فكُسر، وعندها مات...».

تنبئ تلك الفظاعة عن قضية شائعة في دوائر الحُكْم، وهي أن المسَّ بمصالح «الكبار»، وتجاوز الخطوط الموضوعة، ولو كانت من قبل المحسوبين على تلك الدوائر، لا يستثني أحداً من البطش والتنكيل والفظاعات.

يحضر المقريزي كثيراً، هذه المرة في «اتعاظ الحنفاء»، في استدلال العلوي على التعذيب بقرض اللحم، ويورد أن قرامطة شرق الجزيرة استخدموه. «وكان مؤسس الدولة القرمطية، أبوسعيد الجنابي قد اغتيل بيد خادمه بعد أن أدخل الحمَّام، وقام الخادم بعده بقتل عدد من القادة استدرجهم إلى الحمَّام. وقبضوا على الخادم بعد اكتشاف أمره فشدُّوه بالحبال، ثم أخذوا يقرضون لحمه بالمقاريض حتى مات».

مع ملاحظة أمرين هنا، الأول أن الدمويين يصنعون وحوشاً تنقضُّ عليهم في نهاية المطاف؛ متى ما تضاربت المصالح؛ والثاني، أن تضارب المصالح تلك لا يُحلُّ بما هو دون القتل والمُثْلة؛ إذ لا منطقة وسْطى!

وساد اعتقاد بإمكانية التحكُّم في مكان إخراج الروح، وخصوصاً من الفم، والتي آمن بها الخليفة العباسي المعتضد، وعن ذلك يقول المسعودي في «مروج الذهب»: «إن المعتضد كان شديد الرغبة في أن يمثل بمن يقتله»، ومن ذلك «إذا غضب على القائد النبيل، أو الذي يختصُّه من غلمانه، أمر أن تُحفر له حفيرة يدلَّى رأسه فيها، ويُطرح التراب عليه، ويبقى نصفه الأسفل ظاهراً، فوق التراب، ثم يُداس التراب بالأرجل حتى تخرج روحه من دُبُره، بعد أن تكون قد سُدَّتْ كل المنافذ التي يمكن أن تخرج بواسطتها من فمه».

أما عن قلع الأظافر التي هي شائعة اليوم في الكثير من «بيوت الضيافة العربية المُعْتبَرة»! وغيرها من بيوت الضيافة في الشرق خصوصاً، فكان لها إرثها وتاريخها وامتدادها، ومن ذلك أنه «أقيمت وليمة قرشية حضرها هشام بن عبدالملك حين كان أميراً، ووجيه يُدعى عمارة الكلبي. واقتضى ترتيب الوليمة أن يجلس عمارة فوق هشام، فاستكثرها منه وآلى على نفسه أن يعاقبه متى أفضت إليه الخلافة، فلما استُخلف أمر أن يُؤتى به وتقلع أضراسه وأظافر يديه، ففعلوا به ذلك.

أما التعذيب بالقصب فكان من نصيب الحجَّاج بن يوسف الثقفي الذي لم يبتكر أحد طريقة عذاب لم تصلها مخيلته إلا وأخذ بها، وكان كثير معرفة بأخبار الروم والفرس وأصناف العذاب التي اتبعوها ضد معارضيهم والخارجين عليهم، ومن ذلك ما حدث لأحد قادة انتفاضة ابن الأشعث في العراق ضد الحجَّاج، فيروز بن حصين «أُسِر بعد فشل الانتفاضة وكان تحت يديه أموال طائلة يعود بعضها للحركة. ولاستحصال الأموال منه أمر الحجَّاج بتعذيبه، فعُرِّي من ملابسه، ولفُّوه بقصب مشقوق، ثم أخذوا يجرُّون القصب فوق جسده، ولزيادة إيلامه، كانوا يذرُّون الملح ويصبُّون الخلَّ على الجروح التي يسبِّبها القصب، وبعد أن يئس الحجَّاج من اعترافه بالأموال قطع رأسه».

وكان للتعذيب الجنسي نصيبه في تلك الفترة المظلمة من التاريخ، والتي لم تتغيَّر سوى في الأدوات والأساليب؛ قلَّت أو كثرت، وهو شائعٌ في الكثير من «بيوت الضيافة» التي أشرنا إليها، وإن كانت في التاريخ نادرة ولا تُقاس بما يشهده عصرنا؛ إلا أن العلوي يُضعِّف الروايات التي مرَّت بين يديه، تلك المرتبطة باغتصاب نساء من المدينة من قبل جنود أهل الشام الذي سيَّره يزيد بن معاوية؛ على رغم تواترها في كثير من المصادر التاريخية المُعتبرة من الفريقين، ويثبِّت رواية ذكرها أبوعبدالله شمس الدِّين الذهبي في كتابه «سيَر أعلام النبلاء»، بأنَّ «الحاكم بأمر الله الفاطمي كان يتجوَّل في الأسواق على حمار ومعه غلام أسود ضخم «فمن أراد تأديبه أمره (...) (...) نهاراً».

الإحاطة بكل صنوف التعذيب وطرق القتل التي كانت سائدة في العصرين الأموي والعباسي وما بعدهما، أمر مُحال، لكن المراد منه أن جُلَّ ما يُتَّبع اليوم، بات سياسة ثابتة في كثير من الدول، وبعض الجماعات الإرهابية المتأسْلمة، لم يأتِ من فراغ، بل له تقعيداته وتأصيله وشواهده؛ على رغم أن الفقهاء من الفريقين حرَّم التعذيب الذي يُبتغَى منه الاعتراف بالإكراه، وأشهر من قال بذلك القاضي أبويوسف في كتابه «الخَراج»: «إن الاعتراف الناشئ عن ضرب المتهم وإيذائه لا يُعتدُّ به»، ومن الإمامية، المحقق الحلِّي في باب الحدود، بأن السارق إذا أقرَّ بالسرقة تحت الضرب لا تُقطع يده، ذلك في الحدود، لا الانتقام تحت عناوين المعارضة، والخروج على الحاكم، والتي تجاوزت شواهد القتل والمُثْلَة ما لا تجده في الحدود نفسها؛ ناهيك عن القتل والتعذيب بالشبهة والظنَّة.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4597 - الأربعاء 08 أبريل 2015م الموافق 18 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 5:56 ص

      يا استادى

      يا استادى جعفر انه الجهل الجهل ليس له علاج لقد ادو رسول الله \\ص\\ واتدى منهم الجهلة انظر الجهلة الكتاب الماجورين اليوم واحد اقول الي دمر الاسلام هى ايرات وولاية الفقيه ما يجرى واقول انه افلوووس الخليج هى الي بثت سمووم الطائفيه وتبرعت ملايين للدواعش لقتل الابرياء الله يحفضك ياسيد الخمنائى لقد حافضت على اللحمة الاسلاميه ولولاك لسيطروا الاعداء على الشرق الاوسط الله افرج عن معتقلينا واخلصهم من التعذيب

    • زائر 3 | 1:05 ص

      التعذيب المنهج الاوحد في الدول العربية

      وهذا ما أكده شريف بسيوني

    • زائر 2 | 1:03 ص

      تراكم التعذيب

      مقال ممتاز استاذ جعفر . التعذيب في الحضارة الاسلامية مهول وقد اخذه المسلمون من الرومان والفرس واسسوا عليه طرقا يندى لها الجبين . مع ملاحظة ان هادي العلوي لم يعرف بالمزاجية في مؤلفاته ومنها تاريخ التعذيب في الاسلام .بل عرف عنه الموضوعية والنظرة الديالكتيكية في تحليل التراث.وانا اطلعت على كتابه وليس فيه مزاجية كما تشير.امالعبد فهو مسعود .وهناك رواية تحكي سيرة الحاكم بامر الله اسمها مجنون الحكم لسالم حميش الروائي المغربي. شكرا استاذ جعفر على تنويراتك. يوسف مكي

    • زائر 1 | 12:56 ص

      لبلدنا تاريخ عريق بالتفنّن في التعذيب

      الحمد لله الشيء الوحيد الذي سبقنا العالم فيه ونالت بلدنا فيه قصب السبق هو التعذيب تاريخ عريق وحاضر متألق

اقرأ ايضاً