العدد 4644 - الإثنين 25 مايو 2015م الموافق 07 شعبان 1436هـ

يهود البحرين والمغرب... والنكبة الفلسطينية

رضي السماك

كاتب بحريني

لئن كان العراق، كما بيّنا في المقال السابق، من أهم البلدان العربية التي شكلت نموذجاً إيجابياً لتعايش اليهود في سلام ووئام مع العرب العراقيين وأسهموا في نهضته المعاصرة، فإن تجربتي المغرب والبحرين هما أيضاً نموذجان تاريخيان جديران بالتأمل والدراسة.

طبقاً للمؤرخ الإسرائيلي المعادي للصهيونية الأوكراني الأصل صموئيل أتينجر، في كتابه «اليهود في البلدان العربية» الصادر مترجماً عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، فإن علاقة يهود المغرب العربي بيهود فلسطين تعود إلى حقبة بالغة القِدم، ويُعرفون لدى هؤلاء باسم «المغاربة». و في ظل الوجود الاستعماري الفرنسي تورط العديد منهم في دعم الحركة الصهيونية والمستوطنين الجُدد في فلسطين، وكان إجمالي يهود أقطار المغرب العربي عشية النكبة يُقدر بنصف مليون نسمة، ولم يتبقَ منهم اليوم سوى 25 ألف يهودي جلهم في المغرب بعدما كان تعدادهم حتى الخمسينيات يربو على ربع مليون نسمة.

والمغرب هو القطر العربي الوحيد الذي مازال لليهود فيه وجود مُنظم. ورغم النهج المتسامح الذي انتهجه عاهل المغرب الأسبق محمد الخامس مع يهود بلاده رافعاً شعار «لا يوجد في المغرب يهود. يوجد مغاربة فقط»، إلى درجة أن أسند لبعضهم مناصب وزارية ودبلوماسية، إلا أن ذلك لم يحُل دون توقف غالبيتهم العظمى عن الهجرة إلى «إسرائيل»، بإغراءات وتحريض من قِبل الحركة الصهيونية. ومع ذلك فقد استطاعت اليوم القلة المتبقية منهم أن تحافظ على حد أدنى من الصمود والتكيف في محيطها الاجتماعي رغم الظروف التاريخية المعقدة التي مروا بها منذ النكبة الفلسطينية العام 1948. ومؤخراً انطلق مشروع تبنته اليهودية المغربية فانيسا بالوما لتجميع الإرث الثقافي لتعايش اليهود كمواطنين مع شركائهم في الوطن من الأغلبية العربية والمسلمة تحت عنوان «خويا»، والتي تعني في العامية المغربية «أخي» للدلالة على تعبير بالوما على ما يجمعهم مع إخوتهم المغاربة العرب والمسلمين من قواسم وأعراف مشتركة، تربطهم منذ زمن طويل («الشرق الأوسط» السعودية/ 21 أبريل 2015).

أما فيما يتعلق بالنموذج البحريني، فيمكننا القول بأنه من النماذج التاريخية العربية الفريدة من نوعها لتعايش اليهود في وئام وسلام مع الأغلبية العربية من مواطنيها، رغم أنه كسائر تلك النماذج لم يسلم من التأثير الصهيوني أيضاً لإغراء كثرة منهم على الهجرة إلى «إسرائيل» أو إلى الغرب غداة النكبة الفلسطينية 1948، ثم غداة النكسة 1967. ويُعد المكوّن اليهودي البحريني أصغر المكونات اليهودية عدداً ونسبةً مقارنةً بأعدادهم ونسبهم بيهود البلدان العربية. وتُقدّر أعدادهم عشية النكبة بـ 1300 نسمة طبقاً للحديث الذي أدلي به إبراهام كوهين للسيدة نانسي خضوري عضو مجلس الشورى الحالي في كتابها «من بدايتنا إلى يومنا الحاضر»، الذي ترجمه محمد الخزاعي، وخصّتني مشكورةً بنسخة مهداة منها بخطٍ عربي جميل، بينما قدّرت عددهم في الوقت الحالي بـ 35 يهودياً فقط. ولم يكن اختيارهم البحرين مصادفةً، بل لما لمسوه عيانياً بتفرد شعبها العربي بالتسامح الديني مجتمعياً ونزوعه الأصيل للمسالمة، وهذا ما أقره ضمنياً كل من خضوري نفسها وابراهام نونو في حديثه إلى الزميلة ريم خليفة («الوسط» 5 أبريل 2015).

ونظراً لهذه الخاصية التي جُبل عليها الشعب البحريني من نزوع شديد للمسالمة وكراهية العنف، فإن الأضرار التي لحقت بيهود البحرين من جراء تبعات النكبة محدودة ولا تكاد تُذكر مقارنةً بالأضرار التي لحقت بأشقائهم يهود البلدان العربية الأخرى، ولعل أبرزها ما حدث غداة اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها العربي وما خلفه ذلك من صدمة ومشاعر ملتهبة في نفوس الشعوب العربية بدون استثناء، إذ تعرّض بعض بيوت اليهود لاعتداءات. ومع ذلك فيمكن وصفها بالعرضية بإقرار خضوري في استشهادها برواية بلجريف للأحداث: «لقد اُصيبت العائلات العربية بصدمةٍ بسبب هذه الحادثة، فمعظمهم أحسن التصرف وقاموا بتوفير الحماية والملجأ لجيرانهم اليهود». ولم ينتج عن تلك الأحداث سوى وفاة سيدة يهودية واحدة. هذا بالإضافة إلى ما لحق بالكنيس اليهودي من بعض أعمال التخريب، وهو الذي يُعد الكنيس الوحيد في الخليج العربي وتم غلقه لاحقاً.

وبعد سنوات قليلة من حرب 67 التي انتهت باحتلال فلسطين كاملة والجولان السوري وسيناء المصرية، اغتيل في ظروف غامضة الصرّاف اليهودي عسقيل عزرا في محله بسوق المنامة بُعيد مدفع الإفطار مباشرةً، ومع ذلك ورغم محدودية تلك الحوادث التي جرت غداة النكبة ثم النكسة، فإن الأكثرية منهم اختارت الهجرة طوعياً إلى «إسرائيل»، أما لشعورهم بعدم الأمان أو تحت تأثير الدعاية الصهيونية. لكن يظل واحد من أهم الخسائر التراثية الدينية اليهودية النفيسة التي تم تداركها لاحقاً سرقة لفائف من التوراة، لكن السارق قام بتسليمها بنفسه إلى أسرة نونو بعد معاناته من تأنيب الضمير، وهذا من المواقف النادرة الوقوع في اعتداءات العرب على اليهود بعد النكبة، ما يدلل بشكل قاطع على معدن شعب البحرين الأصيل في المسالمة والتسامح مع كل الديانات والطوائف، ونبذ الإساءة إلى معتقداتها.

وحسب نونو في الحوار الصحافي المشار إليه آنفاً، ينحدر معظم يهود البحرين كسائر أغلب يهود البلدان العربية من طائفة «السفارديم»، وهم المنحدرون من يهود الأندلس (أسبانيا والبرتغال) وحوض البحر المتوسط، وهؤلاء أكثر تأثراً بالعادات والتقاليد العربية في الأكل والأناشيد والأدعية الدينية اليهودية والموسيقى، ناهيك عن تحدّثهم بالعربية واقتصارهم على التحدّث بالعبرية في العبادات فقط مقارنةً بطائفة «الأشكناز» المنحدرين من شرقي أوروبا والذين يتحدّثون «اليديشية»، وهي غير العبرية، ويشكّلون ما يقرب من 90%من يهود العالم (غازي السعدي، «الأعياد والمناسبات والطقوس لدى اليهود»). ومن هنا يمكن فهم اعتزاز خضوري بعروبتها: «إننا نعتبر أنفسنا عرباً ونعيش في سلام في بلد مسلم حيث كان هذا وطننا».

ورغم ما عُرف عن يهود البحرين باعتدالهم الوسطي الديني، إلا أنهم ابتعدوا عن النشاط السياسي واتخذوا موقفاً حذراً وظلوا على مسافة يمكن القول بأنها محسوبة بدقة من الاندماج الاجتماعي الكامل، كأغلب من تبقى من يهود البلدان العربية، كما ظلوا ومازالوا أقرب إلى الحياد في الصراع العربي - الاسرائيلي، فضلاً عن الموالاة لحكومات البلدان العربية التي يعيشون في كنفها.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4644 - الإثنين 25 مايو 2015م الموافق 07 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 7:23 ص

      لونا العريض

      يظل الانسان مهما كانت انتماءته الدينيه متمسك بعرقه وجذوره التي قد تتنافى مع الذين يشاركونه في الدين... ولذلك نرى اليهود العرب يشتاقون الى كل ما افتقدوه في بلادهم الاصليه حيث العادات والتقاليد والطعام و الموسيقى ... ولم نسمع عن بلد ينتمي اليه بشر من دين واحد الا "اسرائيل "

    • زائر 1 | 11:56 ص

      شكرا أستاذنا الكريم على هذا المقال

      بصراحة مقالك دقيق ومتعب عليه...نعم التسامح هو ميزة شعبنا واليهود في البحرين مختلفون عما هو موجود في إسرائيل

اقرأ ايضاً