العدد 4646 - الأربعاء 27 مايو 2015م الموافق 09 شعبان 1436هـ

ليست القُدَيح وحدها إذا استمر تشْحيم آلة الكراهية

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

وفِّروا التعاطف الكاذب أحياناً، والمؤقت أحياناً أخرى؛ تماشياً مع الظروف؛ وتعبيراً عن حزنكم العابر لما حدث من إرهاب في القُدَيح؛ لتُعاوِدوا ممارسة الطائفية والتكفير والتحريض والتسفيه والتفسيق والتحقير تجاه مكوِّن من مكوِّنات هذه الأوطان. لن نتورَّط في حال من التعميم هنا. ثمَّة من خاف على وطنه فهزَّه ما حدث في القُدَيح، ويهزُّه ما يحدث في أرض الله المستباحة من قِبَل التكفيريين والظلاميين.

ثمَّة من هو من نُطْفة إبليس، ومن نُطْفة جَبَانة ومنافقة يُساير الحال العامة تنديداً وينسى أن «تويتر»، كما الناس، له ذاكرة يحتفظ فيها بأرشيف أمراضه الطائفية والعنصرية، والدور العبثي؛ بل الانتحاري الذي يمارسه، من دون الحاجة إلى حزام ناسف كما فعل الباحث عن النعيم الذي توهَّمه، والحور العين المُتخَيَّلة بتفجيره مسجد القُدَيح.

وفِّروا أيضاً لياقة السعار لديكم؛ يا من وجدتم في تفجير مسجد فيه مُصلُّون مشغولون بلقاء ربهم في الدنيا؛ فقضوا بين يديه لقاء به في دنيا الحساب؛ وكأنكم وجدتم في ذلك أول الفتح والشرف والنُبْل والشجاعة وأيضاً إغاثة الشيطان المتلهِّف لمزيدٍ من شيطنتكم التي بتم منافسين له وأنداداً، بدل إغاثة الملهوف!

لا مكان للعاطفة هنا، ولا تُحدِّثونا عن اللحمة الوطنية، في الوقت الذي تُواصل فيه الفتاوى والقنوات وخطب صلاة الجمعة نفْث سمومها، حقداً واندفاعاً لإحراق هذه الأوطان؛ قبل احتراق اللحم وشوائه وتناثره في بيوت الله الآمنة.

كل هذا التعاطف الصادق والكاذب لا يصنع استقراراً لأُمَّةٍ من دون العمل الحقيقي على الأرض؛ مادامت آلة التحريض وصناعة الكراهية ووكالة توزيع الأجنحة في الجنة والنار، مع مفاتيحها، في قبضة الذين لديهم مشكلة مع الحياة، ومشكلة مع الاختلاف، ومشكلة مع العقل، ومشكلة مع الأخلاق، ومشكلة مع الضمير، ومشكلة مع الحس الإنساني.

الصادقون في تعاطفهم يكتفون بتلك العاطفة وتظل أصواتهم خافتةً وسط هذا الهدير والسعار من التحريض. بعضهم يملك أداة تغيير وإن لم يتغيَّر شيء: الكلمة الحرة، والموقف الحر، والشهادة الحرة على ما يحدث، لكن الضريبة الفادحة التي يجب أن تُدفع باهظة ومُؤذية. والمتلوِّنون الذين يوقّتون بيانات وتغريدات تنديدهم وشجبهم سيموتون كمداً ما لم يستأنفوا هذا الانهيار الأخلاقي في استسهال القتل والذبح وتحبيذه والحثِّ عليه والإغراء على اعتناقه، بوفرة النصوص التي يقف وراءها وضّاعون وتجَّار تفسير وسماسرة تحريف للوعي والمدارك، وبعد ذلك يستغفرون الله على اليسير مما أوغلوا فيه من دماء!

في الفضاء الذي أصبح سجناً لمن تبقى لديهم ما يدل على العقل. في الفضاء/ السجن (تويتر) وغيره من وسائل ممارسة تفريغ الأمراض والأوبئة، يُمكن لأيٍّ منا الوقوف بسهولةٍ على مدى الانحطاط والاستعداد للدخول في حلف مع الموت ضد الحياة، تتم ممارسته من قبل مستويات وشرائح متباينة: الأستاذ الجامعي، ومن يُوهم متابعيه من الإمَّعات بأنه داعية وعالم شريعة (لا أدري عن أي شريعة يتحدَّثون، تلك التي يسوِّقون لها من أمكنتهم وجحورهم الالكترونية والترابية، لإرجاع العالم إلى ما دون شريعة الغاب)، ومن بين أولئك الشاذ والمدمن والذي هو على مستوى متقارب، وأحياناً أدنى من البهائم، والسمسار، وبائع الأطعمة الفاسدة، وتاجر الرقيق، واللص الذي يعمل على مدار الساعة متخفياً بمسمّى شائع: «وجيه»، «صاحب أعمال»، «رجل البر والإحسان»، والفاشل بامتياز أيضاً. كل أولئك بيدهم الـ (Master Key) للجنة، في الوقت الذي يحرصون فيه على التأكُّد من أنهم ملتزمون بإشاعة الجحيم على الأرض!

يمكن أن ينجح أحدهم في الضحك على العالم بعض الوقت، ولكنه لن ينجح في ذلك طوال الوقت. هنالك منظومة مُرعبة ومُنحرفة أخلاقياً وإنسانياً عن الفطرة تُشرِّع وتُغري على ارتكاب كل هذا القتل والتفخيخ من القُبُل والدُبُر، بالنصوص التي يقرأها عُمْي بصرٍ وبصيرة؛ تجييراً لها كي تتوازى مع عُقدهم وأمراضهم وإحَنِهم. منظومة تعليمية ومناهج تَعِد بالنعيم المُقيم بقتل المخالف وإباحة دمه وماله وعرضه، وأتساءل وكثيرون: كم هو مُوحشٌ وباردٌ وغير ذي قيمة ذلك المكان في النعيم المقيم الذي أوَّله تكفير وتحريض، وآخره تفخيخ وقتل واستباحة أعراض وأموال!

ليست القُدَيح وحدها، ولن تكون الأخيرة ضحية ممارسة الخسَّة والدناءة والجبن والجرأة على الله في بيتٍ من بيوته، وإهدار دم خلقه وَهُمْ في حصْنه وبين يديه. شهدت غيرها من المناطق في البلاد الحدث الدنيء نفسه؛ كما شهدت بلاد في الإقليم ما هو أفظع وأكثر دموية. ومن يقف وراء ذلك، جنون واحد، مُؤدلج، يتم شحنه بفعل آلة النصوص والتفسيرات المريضة؛ وتوهُّم احتكار الله؛ والوكالة المنفردة في توزيع قسائم ومنازل وقصور العباد في نعيم الله، وطبقات ودَرَك العباد في سقر.

هذا الفهم الذي يُراد فرضه لا يُهدِّد المُستهدَفين بشكل اعتيادي وصار بحكم العرْف؛ بل يستهدف الحياة ويهدِّدها في أنبل قيمها وأهم إنجازاتها، وما تبقَّى لدى بشرها من صبر وحلم وضمير أيضاً. الضمير الذي لا علاقة لتلك الوحوش به.

ثم إن أصحاب المفخَّخات وحمَلتَها ممن لم يطرف لهم جفن بالتجرُّؤ على حرمات الله في بيت من بيوته بسفك الدم الحرام؛ لن يتردَّدوا في زرع مفخَّخاتهم في رياض الأطفال والجامعات والمستشفيات، وفي حشود مُهنِّئة وأخرى مُعزِّية!

ليست القُدَيح وحدها من تدفع فواتير هذا الجنون والانحطاط الأخلاقي؛ باستمرار آلة نصوص الموت في القيام بدورها، ودوران عجلتها التي يتم تشحيمها بأموال الغافلين والذين يعلمون والذين لا يعلمون. الحياة برُمَّتها في مرمى ذلك الجنون الذي يتم رفده بأكثر من آلة بغيضة، وقبح نهائي، وشذوذ لا نظير له في تاريخ العالم، قديمه وحديثه باسم الإسلام وباسم لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والله ورسوله منه بُرَاء.

ستتحوَّل هذه الأوطان إلى أكثر من القُدَيح بالفجائع التي مرَّت وتمرُّ بها، ووحدهم الأبرياء من سيدفع ثمن ذلك. الأبرياء الذين أكثر ما يُحسنون في هذه الحياة هو التوكّل على الله في حركاتهم وسكناتهم. وسينوِّع أعداء الحياة انتخاب أهدافهم من الجامعات والأسواق والشواطئ التي يستجم عندها الناس بعد طول عناء، أو هروب من غصة؛ ما لم يتم تدارك الأمر بمنهجية واضحة، وتجفيف منابع هذا العفن والدنس والدناءة.

سيستمر هذا الطوفان من الدماء؛ وإهدار الحياة؛ واستساغة قتل النفس المُحرَّمة؛ والتلمُّظ لمشاهد الأشلاء، وطلب الأكثر فاعلية في تفتيت وفَرْم اللحم البشري وهرْس العظْم؛ طالما ظلَّت الفتاوى والقنوات وخطب صلاة الجمعة تفحُّ حقداً وتحريضاً ومباركة وتأييداً، بنصوص تم استلالها بالفهم والتفسير المريض؛ والعُقد التي يختلط فيها التاريخ الذي لم يكن كله بريئاً، بالحاضر المأزوم، والمستقبل الذي يُراد له أن يكون في خبر كان؛ تماماً كواقع الاستقامة والاستقرار الذي لا يُراد لهذه المنطقة أن تعرفه!

حطِّموا آلة التحريض والتكفير، وافتحوا فضاءات للتفكير، وضعوا حداً لاستمرار تشحيم تلك الآلة، وتعاطفوا بعد ذلك صدقاً أو كذباً أو مسايرة!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4646 - الأربعاء 27 مايو 2015م الموافق 09 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 11 | 10:00 ص

      يا أخي يا زائر 8

      تتخلي الحكومات عن مشروع التكفير والطائفية لأنه يخدمهم ؛ و قُدِّم لهم بالمجان . لذا ليس العتب عليهم! العتب كل العتب على العلماء و المراجع اللذين بيدهم إيقاف مفعول التكفير والطائفية. و لكنهم لن يفعلوا لأنه يخدمهم ؛ و قُدِّم لهم بالمجان!

    • زائر 10 | 2:35 ص

      شكرا

      مقال ممتاز . وقي الصميم.. واذا لم تقم السلطات بدورها في وقف هذه الجماعات بقدر ما تدفاع عن مشاريعها في التصدي للمطالبين بتعديل اوضاع البلد فان الاوضاع ستصل لحد لا تستقيم معه الحياة

    • زائر 9 | 2:10 ص

      شجرة الشرّ ثمرها كريمة وتعطي ثمرها للجميع بلا استثناء

      الشجرة التي يعمّ ثمرها الجميع هي شجرة الشرّ التي ان زرعها الانسان فإنها شجرة كريمة لا تقتصر في كرمها على شخص دون آخر بل يعمّ شرّها على الجميع وقد يبدأ ثمرها في جهة معينة مقصودة لكنها ما تلبث ان توزّع شرّها على الجميع

    • زائر 8 | 1:32 ص

      خدمة المشروع

      يا جمري يا نور عيني مشروع التكفير والطائفية لا تستطيع الحكومات التخلي عنه فهو يخدمهم فيجب ان يدرس التكفير للشيعة في المناهج الدراسية والمساجد والصحف والفضائيات

    • muntherdhaif | 1:01 ص

      المختار الثقفي

      سلمت يداك...
      اصبت جميع من حرض ومن رضى ومن سكت عن ادانة مثل هذا الفعل الدنيء اصبتهم جميعا في مقتل...
      الاغرب ان تُبدى احدى الاذاعات الرسمية من النبش في التويتر عمن افتوا بقتل الآخر وازاحته عن الجنة التي عرضها السماوات والارض. متغاضية عن تلك الفتوى التي كانت ومازالت هي أصل للقتل والهدم والحرق وكل كلمة توحي بالتدمير والهلاك..

    • زائر 6 | 1:00 ص

      اتفق في وصفك مفكر

      ما اجمل ما تكتب وتصيغه مفرداتك التي لا يشبهها شي.. احسنت ودائما تشفي ما في القلب. من أعماق القلب شكرًا

    • زائر 5 | 12:42 ص

      عبد علي البصري

      السيد علي السستاني , عالم دين ومن سلاله الرسول الاعظم وهو حسيني , ومحترم من قبل كل الاطياف العراقيه تقريبا , وكان السيد رئيس الجامعه العربيه السابق عمرو موسى زاره اكثر من مره , وأشاد به , وهو عندي أنا رجل مقدس قدسيه الايمان و العلم والنسب , فلو أنه إفتراضا إفتراضا أساء يوما ما لمسلم أيا كان هذا المسلم , لخلعنا بيعته من اعناقنا وعندما سؤل في موضوعا ما اخواننا السنه قال مقاطعا لا تقل اخواننا بل هم انفسنا وللاسف أننا نرى رجال يصطفون خلف امام يدعو الى القتل.

    • زائر 4 | 12:38 ص

      أنت استاذ ومفكر ورائع ومتمكن اشد تمكين

      أنت استاذ ومفكر ورائع ومتمكن اشد تمكين فيما تكتب.. مبدع وتصيب من يقرأ مقالك بالتدبر والتفكر... أحسنت استاذنا

    • زائر 3 | 12:19 ص

      لامجال للعاطفة هنا هذه خطوط حمراء

      لامجال للعاطفة بعد القتل والتفجير لان الابواق مستمرة والتكفيريين لهم ذيول تنعق كالبوم في كل مكان وعلى عينك اثناء خطب الجمعة هؤلاء لايوجد رادع لهم لانهم محميين والقانون لايطبق عليهم.
      يجب تطبيق القانون على التكفيريين والدواعش لاننا رايناهم في سوريا يسرحون ويمرحون ويتوعدون بالذبح والتفجير.

    • زائر 2 | 12:14 ص

      الطائفية

      الطائفية مرض و يجب علينا علاج هذا المرض و لكن قبل ذلك علينا ان نعترف ان الطائفية لها طرفان و ليس طرف واحد

    • زائر 1 | 10:24 م

      مقال رائع

      بداية صباحك نخل بلادي وبحر بلادي ورمل بلادي وطيبة اهل بلادي ..انه موضوع رائع يوصف الواقع المر والانحطاط الذى اوصلنا اليه الفكر الداعشي وسماسرة الطائفية

اقرأ ايضاً