العدد 4653 - الأربعاء 03 يونيو 2015م الموافق 16 شعبان 1436هـ

العقل العربي وتوَلُّد أكثر من إسلام!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في كتاب المفكِّر المغربي الراحل، محمد عابد الجابري «بُنْيَة العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية»، يستند في أطروحته على مجالات معرفية ثلاثة، ويحلِّل القواعد التي تقوم عليها عملية تحصيل المعرفة وبثِّها، تتحدَّد في: البيان والعرفان والبرهان. الأول باعتباره فعلاً معرفياً له سماته ودلالته وشواهده في: الظهور والإظهار والفهم والإفهام، وكحقل معرفي يتحدّد في عالم المعرفة الذي تبنيه علوم اللغة وعلوم الدِّين؛ فيما الثاني، كفعل معرفي يتمظهر في الكشف أو العيان، وكحقل معرفي، يتحدَّد في كونه خليطاً من «هواجس وعقائد وأساطير تتلوّن بلون الدِّين الذي تقوم على هامشه». أما الثالث، كفعل معرفي «هو استدلال استنتاجي، وكحقل معرفي هو عالم المعرفة الفلسفية العلمية».

كان ذلك المشروع في ذهاب بعيد واستعادي لخريطة ونظر وتعاطي العقل العربي، والوقوف على حقيقة بُنْيَته، وفي ذلك الذهاب يمكن الوقوف على حقيقة وطبيعة العقل العربي الراهن، الذي فقد الكثير من تجليات القيمة والخلق والإبداع، والحراك، واحتلال مكان في عقل عالمي مشغول بالإضافة والتجاوز الخلاق. لم يخلُ تناول الجابري من قائمة طويلة من الإدانات والاتهامات والتسخيف لذلك العقل حتى ضمن المساحة الاستعادية تلك، وهو تسخيفٌ حدَّده المنهج الذي اتبعه الجابري، وأكَّدته الشواهد، وعمَّقت حقيقته تلك الدائرة التواصلية ليس فقط في المجالات المعرفية الثلاثة التي تناولها؛ بل في تلاشيها واضمحلالها، واحتلال الوهم والخرافة والانتظار؛ بل والخروج والتوغُّل في العميق من هوامشها.

لا يمكن فصل العقل العربي الراهن؛ إن كان ثمة عقل أساساً، عن مقتضيات وتجليات الفعل الراهن، وما ينتجه ذلك العقل - أو ما تبقى منه - من تأبيد وتعميق لحالة الاعتماد والتواكل والانتظار أيضاً، في صور وممارسات مُتعدِّدة ومُتلوِّنة، تأخذ أشكالها وتجلياتها في هذا الفقر الذي يكاد يسِم ندرة فعله، وإنتاجه وإضافته، وقدرته على مجاراة ما حوله من فعل وإنتاج وإضافة وقدرات مُذهلة.

وأول ما يمكن ملاحظته في تلاشي واضمحلال ذلك العقل، هو في قدرة التوليد التي أنتجت أكثر من نسخة للإسلام (مصبّ ومنبع النظم المعرفية في مُعظم مساحات الثقافة والفكر العربيين أمس وحتى اليوم)، في ظل إسلام مُختَطَف تم تكريسه وتوظيفه، وفرض هيئته، وانتزاع أثره وفعله، وباتت تلك النسخ تتحكَّم في مآلات وبواعث ذلك العقل، وتحدِّد لها الوجهات، وطرائق النظر، وزوايا الفهم، ومصادر الاستيعاب. على الأقل استيعاب موقعه في هذا العالم، والذي بات بالملاحظة المجرَّدة خارج الأطراف البعيدة من موقع حركة العقل في عالم اليوم.

ذلك التوليد بالفهم القاصر والضيِّق، المنطلق من المصلحة. المصلحة الآنية للجماعة والأفراد، والقبيلة، والعائلة، والمذاهب، والطوائف والمزاج أيضاً، وكذلك السياسة، اختلطت فيه الخرافة بالمزاج بالنزعات الضيقة، واستبعاد وحجب ما عداه من وجود وعقل ونظر وفهم ضمن الدائرة العربية والإسلامية التي كانت جامعة، فأصبحت متشرذمة ومتشظية، ومرشَّحة إلى مزيد من التشرذم والتشظية.

مثل ذلك التوليد الذي أصبح واقعاً قائماً، ويكاد يكون مُسلَّماً به، في ظل احتضان جهات رسمية وشعبية له، لم يترك للبيان والعرفان والبرهان، متراً من حركة، و»خرْماً» من إعادة نظر ومساءلة، بالاضطراب الذي يتعمَّق في الواقع مع ذلك التوليد، بحيث تحوَّل العرفان كفعل معرفي: الظهور والإظهار والفهم والإفهام، إلى النقيض من كل ذلك، والعرفان كفعل معرفي يتمظهر في الكشف أو العيان، إلى الحجْب والتواري والغياب، أما البرهان باعتباره فعلاً معرفياً، يتوخَّى الاستدلال الاستنتاجي، فهو الآخر يقوم اليوم على إنتاج كل جماعة وقبيلة، وعائلة، ومذهب، وطائفة، بالعقل الذي قرَّت عليه، والفهم الثابت لديها، استدلالها الاستنتاجي الخاص بها، والذي هو في المحصلة النهائية على مفارقة ومبعدة من العقل أساساً، والأثر المرجو من ذلك العقل.

بكل ذلك، أصبحت الخرافات، والمزاج، والانتظار، والعصبيات، هي مُحدِّدات المجالات المعرفية التي يشتغل عليها العقل العربي في مساحة كبرى منه، باعتبارها النسخة المُعدَّلة والموسَّعة لما تبقى من بنية في العقل العربي الراهن؛ إن استطاع كل ذلك أن يُحقِّق بنْيَة هشَّة أساساً؛ عدا الحديث عن بُنْيَة للعقل!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4653 - الأربعاء 03 يونيو 2015م الموافق 16 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:39 ص

      توَلُّد أكثر من فكر و أكثر من دين ليس خاصية بشرية

      قابلية توَلُّد الأديان، و انشقاق دين من دين خاصية بشرية لا يستثنى منها أحد؛ و لا يستثنى منها عصر؛ وليست مصيبة أصيب بها العقل العربي!
      أنظر ما حدث للبوذية؟ و كم بوذية توجد اليوم؟ مع أنها دينا أرضيا. و هكذا مع اليهودية فالنصرانية فالإسلام! ثم انظر إلى السنة ثم الشيعة. تكاد لا تستطيع أن تعرف السني الصحيح أو الشيعي الصحيح اليوم من كثرة فرقهم اليوم، إضافة إلى الفرق المنقرضة منهم . ثم أنظر إلى الشيوعية و القومية! فكم بعثية عندنا اليوم و هم مذاهب أرضية؟

اقرأ ايضاً