العدد 473 - الإثنين 22 ديسمبر 2003م الموافق 27 شوال 1424هـ

«الدعاية» بوصفها أسلوب إدارة اقتصادية

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

منذ حوالي العام، تذيل البيانات الصحافية التي ترسلها دائرة العلاقات العامة بشركة باحد الشركات الكبرى بفقرة يستوقفني تكرارها دوما في كل بيان.

الفقرة تقول: «وقد بدأت الشركة السنة الأولى من برنامجها الاستراتيجي لتحسين أوضاعها والذي يستمر لثلاث سنوات تحت قيادة، الرئيس التنفيذي للشركة. تطمح الشركة إلى تطوير وتحسين أوضاعها عن طريق الاستفادة من عناصر قوتها الحضارية التي استمدّتها الشركة خلال أكثر من نصف قرن من التشغيل في ظل بيئة تنافسية عالمية قويّة».

«تحت قيادة الرئيس التنفيذي...»؟ ألا يذكرنا هذا بشيء؟ ألا يقرع الجرس هذا التكرار المستمر في كل بيانات الشركة مهما كان موضوعها الذي تتحدث عنه؟ انه يذكرنا بعبارات مماثلة ظلت تتكرر طيلة 35 عاما في العراق... «تحت قيادة السيد الرئيس حفظه الله»... أو «بقيادة السيد الرئيس».

هنا، يمكن ان تتداعى الى ذاكرتنا صور مماثلة لخطاب السلطات الرسمية في بلداننا العربية بأسرها من دون استثناء، بل ان الفقرة المشار اليها تلح بقوة على ذاكرتنا عندما تتحدث عن الاقتصاد لكن بلغة خطابية رسمية: «تطمح الشركة الى تطوير وتحسين اوضاها عن طريق الاستفادة من عناصر قوتها الحضارية».

هكذا نحن امام عنصرين في هذه الفقرة يلحان على تذكيرنا لا محالة بماكينة الدعاية البعثية في العراق وفي بلدان عربية اخرى: تمجيد القيادة من جهة والاستعانة بالتاريخ وأساطيره من جهة اخرى.

يبدو السيد الرئيس التنفيذي اداريا من طراز خاص. وهو على ما يبدو يملك حزما وقدرة على تحفيز من حوله على العمل والبذل. وهو الى ذلك يبدو ايضا من النوع الحركي وكثير النشاط والاهم من هذا انه يملك رؤية ما لمهمته التي اختير من اجلها.

وفي مطلق الاحوال نحن لا نملك سوى ان نتمنى من اعماق قلوبنا ان يوفق في مهمته.

لكن من الواضح ان لدى الرئيس التنفيذي مشكلة ما. انها مشكلته مع الاعلام والصحافة.

في مطلع ديسمبر/ كانون الأول، نشرت الصحف المحلية فقط من دون سواها خبرا صغيرا ومقتضبا ارسلته احدى الشركات الى هذه الصحف عن موضوع. وعندما استفسر معظم مراسلي الوكالات الاجنبية ومراسلي الصحف والاذاعات العربية والاجنبية من العلاقات العامة في الشركة في اليوم التالي عن سبب عدم ارسال الخبر لهم، كانت الاجوبة المقدمة تتراواح ما بين الوقت المتأخر لارسال الخبر، او ان من قام بارساله للصحف لا يعرف ارقام وعناوين جميع المراسلين.

الحجة الاولى مردود عليها، لان عناوين المراسلين موجودة لدى الشركة منذ سنوات وحتى قبل يومين على الأقل من ذلك الخبر، كان بريدي الالكتروني يعج بالرسائل المرسلة من العلاقات العامة بالشركة. كما ان الحجة لا تستقيم لان الشركة سبق وان ارسلت اخبارا اخرى في وقت متأخر من الليل.

أما المبرر الآخر عن عدم معرفة من ارسل الخبر بعناوين اكثر من عشرة مراسلين اجانب على الأقل فهو أمر لا يليق بشركة كبرى ان تردده لاننا لا نتحدث عن شركة مقاولات صغيرة بل عن شركة يفترض ان لديها تقاليد احترافية عالية. كانت هذه هي المرة الثانية التي يحدث فيها مثل هذا الامر، فقد تكرر الامر قبل شهور مع خبر صغير ومقتضب ايضا عن بدء الشركة لمفاوضات مع اللجنة.

مشكلة الرئيس التنفيذي على ما يبدو هي مع الانتقادات. واذا شئنا التعامل بترفق اكثر، مشكلة جهاز العلاقات العامة في الشركة وهو ينفذ ما يعتقده انه سياسة الادارة.

فعندما طرحت الملاحظة على عدم ارسال الخبر لمراسلي الصحف العربية والاجنبية والوكالات، لم يكن يملك سوى جواب فوري ومقتضب في صيغة الأمر: «ارسل قائمة عناوينك لجهاز العلاقات العامة». وتطوع احد مسئولي شركة العلاقات العامة التي تتولى أعمال الدعاية للشركة ليأمرني بلهجة تذكرنا بالضباط البنجابيين في الجيش البريطاني بان ارسل عناويني للعلاقات العامة وحسب.

كان احد المسئولين في احدى الوزارات اكثر ايجابية في تعامله مع الملاحظات، عندما طلب مني تزويده بالمناسبات التي لم ترسل فيها بيانات لنا، كما اعرب عن تأكيده واتفاقه مع ملاحظة اوردتها على ان «من يحاول تحاشي الصحافة انما يخفي شيئا». واكد المسئول بصدر رحب ان الشفافية هي مقياس علاقة الشركة بالصحافة والجمهور عموما.

ترى اي نوع من الانطباعات خرجنا منها؟ ثلاثة أي منذ ارسال الخبر الى الصحف، مرورا باستفساراتنا لمسئولي العلاقات العامة وانتهاء بما جرى في المؤتمر الصحافي؟

طيلة هذه الايام والمواقف، لم يبادر الرئيس التنفيذي أو اي من مسئولي العلاقات العامة الى طرح عبارة بسيطة من شأنها ان تقود المسألة كلها الى مسار آخر ربما اخف وطأة. لم يبادر اي منهم الى الاعتذار ولو على سبيل المجاملة وقول عبارة بسيطة يتقنها رجال العلاقات العامة في مثل هذه المواقف مثل: «نحن نأسف لما حصل ونعدكم بان لا يتكرر في المستقبل». ايا كان مقدار الصدق المفترض في عبارة من هذا النوع، فانها على الأقل كفيلة بان ترينا اي نوع من الاشخاص نتعامل معهم.

من الواضح ان الرئيس التنفيذي لا يحب كلمة «آسف» لان ردة فعله كانت في اتجاه آخر. ربما ان ما دفعني لطرح الامر في مؤتمر صحافي هو هذا النوع من العناد والمكابرة. فعلى مدى أيام، لم نتلق اي تفسير مقنع منذ ان رفعنا سماعات الهاتف وطلبنا تفسيرا شافيا من موظفي العلاقات العامة. لم نسمع من هؤلاء كلمة اعتذار واحدة عن عدم ارسال خبر (بمعنى آخر تجاهل) الى اكثر من عشرة مراسلين لصحف عربية واجنبية ووكالات. وعندما طرحت الشكوى، فان عبارة «ارسل قائمة عناوينك لجهاز العلاقات العامة» لا يمكن ان تحل المشكلة ليس لأن العناوين موجودة اصلا، بل انها تكشف عن الطريقة التي يتعامل بها الرئيس التنفيذي مع الاعلام.

واذا كان لي ان اختم بشيء هنا، فهو نصيحة لهوغان ومساعديه. اذا كانوا يعتقدون ان بامكانهم السيطرة على الحقائق والمعلومات في شركة تضم آلاف الناس فان ذلك مثلما قلت في المؤتمر الصحافي ايضا: نكتة الموسم.

واذا كانوا يعتقدون ايضا اننا لا نعلم شيئا، فهذه نكتة اخرى. واذا كانوا يعتقدون ان سياسة «لا تظهروا سوى النجاح وتعاملوا مع المصاعب وكأنها غير موجودة» اثمرت فهم مخطئون لان القصص كانت ولاتزال تتوالى بين ايدينا وكان بالامكان ان تتحول الصحافة الى صداع يومي ينشط ماكينة علاقاتهم العامة. لكننا تصرفنا بدافع آخر ربما يعتقد هوغان ومساعدوه انهم الوحيدون الذين يملكونه حصريا. تصرفنا بدافع الاحساس بالمسئولية تجاه شركتنا ومستقبل اخواننا وكان شعارنا: «على رغم كل شيء اعطوهم فرصة». مازلت اؤكد امنياتي له بالنجاح في مهمته، لكن التجربة تجعلني اخشى كثيرا من اولئك الذين لا يعرفون كلمة «آسف» لانها تذكرني ان زعيم العراق لم يقلها في يوم وهو يقود شعبه من هاوية الى اخرى. وهذا الالحاح على تكرار التأكيد على عبارة «تحت قيادة» يذكرني على الدوام بأسوأ اشكال الدعاية ولا أجد لها مثيلا سوى اكثر انواعها رداءة وفجاجة هو اسلوب الدعاية في العراق البعثي. وتفادي الصحافة يجعلني اشعر بالقلق لانه ينم عن سوء فهم وتبسيط مبالغ فيه للوصفة المطلوبة للنجاح في الادارة الاقتصادية. فايا كانت الكيفية التي تجري عليها الامور في الشركة ولربما تكون آخذة في التحسن على أية حال، فان التهرب من الصحافة لا ينم سوى عن محاولة اخفاء شيء. ولا نظن ان احدا في البحرين أو في اي مكان في العالم اليوم يعتقد ان افضل طريقة لمواجهة الصعاب هي تحاشيها أو التعامل معها وكأنها غير موجودة

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 473 - الإثنين 22 ديسمبر 2003م الموافق 27 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً