العدد 4772 - الأربعاء 30 سبتمبر 2015م الموافق 16 ذي الحجة 1436هـ

معانقة الأعداء... درسٌ فاتيكاني

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية كوبا. قريبتان بحكم الجغرافيا بعيدتان بحكم السياسة. عدد سكان الأولى هو 318 مليوناً و900 ألف، بينما الثانية لا يزيد عدد سكانها على الـ 13 مليوناً. أما في المساحة فالحال كذلك، إذ إن الولايات المتحدة تكبر كوبا في الحجم مثل حجم دولة أمام قارة.

أما التباين الأهم فهو في العقيدة السياسية. فالأميركيون رأسماليون، والكوبيون شيوعيون. هذا الاختلاف هو الذي حَكَمَ العلاقة الثنائية بينهما طيلة خمسين عاماً خَلَتْ، وما شهدته تلك العلاقة من حصار وحرب ظالمة بطريقة غير مباشرة تعرّض لها الكوبيون. وقد كتبتُ قبل 172 يوماً عن صراعهما السابق «وصلحهما» المفترض والذي سأتناوله في مقال اليوم بوجه آخر.

إن الصورة التي لم يُركَّز عليها بشكل جلي في هذا الصلح هي صورة الدور الذي لعبته حاضرة دولة الفاتيكان كي يقلع الطرفان الأميركي والكوبي عن معاداة بعضهما. وقد زار البابا فرنسيس الأول كوبا والولايات المتحدة الأميركية قبل أيام، لمتابعة ما قامت به الكنيسة البابوية منذ ربيع 2013م إلى خريف 2014م من جهود سرية لعودة العلاقات بين البلدين، والتي تطبّعت رسميّاً في الـ 20 من يوليو/ تموز الماضي.

الولايات المتحدة الأميركية دولة رأسمالية علمانية، لكن رئتها الاجتماعية مسيحية. وجمهورية كوبا دولة شيوعية علمانية لكن جوهرها الاجتماعي مسيحي. وعلى رغم بروتستانتية الأميركيين (الغالبة)، وكاثوليكية الكوبيين (الغالبة) فإن الغطاء في الدولتين بقي كما هو: إننا مسيحيون.

الزيارة الخارجية العاشرة للبابا فرنسيس، خصَّها لهاتين الدولتين كما ذكرنا، ضمّنها 26 خطاباً مُقسَّمين بين الولايات المتحدة وكوبا: 8 منها ألقاها على أسماع الكوبيين و18 خطاباً ألقاها عند الأميركيين. وقد اختار أن يتحدث في أربعة منها بالانجليزية فقط. وربما أراد الحديث باللاتينية والإسبانية بصورة أكبر (كما فعل)، كي يتشرّبها 40 في المئة من الأميركيين فضلاً عن الكوبيين أنفسهم.

كما حرص البابا على أن يقيم حفلاً دينيّاً تخليداً لـ «قداسة المرسل الاسباني من القرن الثامن عشر جونيبيرو سيرا» عرَّاب التبشير في الأراضي الكاليفورنية، للهدف السابق ذاته في رغبة الفاتيكان في اجتذاب تأييد الناطقين بالإسبانية التي يتحدث بها أزيد من 400 مليون إنسان في العالم.

ما يجب أن يُعرَف في كل ذلك، هو أن الفاتيكان ليس دولة مترامية الأطراف. فمساحتها لا تصل حتى إلى 440 كيلومتراً. بل إن نصف مساحتها كاتدرائية. ولا شعبها كبير. فنفوسها لا تزيد على 800 نسمة. إلاَّ أنها استطاعت استثمار موقعها الروحي في العالم؛ كي تلعب أدواراً متعددة في قضايا إنسانية عند مختلف الديانات السماوية والأرضية على مستوى العالم، وكذلك في قضايا سياسية حتى بين مجتمعات و»دول» مسيحية، آخرها ما ذكرناه بشأن هافانا وواشنطن.

والأنباء المتواترة اليوم، أن الفاتيكان يُمكن أن يلعب دوراً بين القوات المسلحة الثورية الكولومبية «فارك» والحكومة المركزية في بوغوتا، على رغم أن البابا يقول إنه لم يجتمع مع أيّ من الطرفين خلال زيارته الأخيرة لكوبا. وربما لم يُعلَن (أو يُعرَف بشكل كبير) قيام البابا بالتحالف مع موسكو كي تستخدم الفيتو في مجلس الأمن عدة مرات ضد القرارات التي كانت ستُتَّخذ ضد سورية في السنوات الماضية، ابتداءً من العام 2012م وحتى آخر مرة استخدم فيها الروس الفيتو.

والجميع يتذكر ما قام به البابا الراحل يوحنا بولس الثاني عندما انهارت الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وكيف كان دوره في ترتيب أوضاعها في الانتقال السياسي الداخلي لمنع حدوث حروب أهلية، وفي الوقت نفسه تموضعها الجديد باتجاه الغرب. وقد نجحت تلك المساعي بقوة.

نعم، قد يرى البعض اليوم أن الدور الفاتيكاني قد يشترط على هافانا إعطاء المسيحيين حرية أكثر في نشاطاتهم الكنسيَّة، بتوجيه من الليدر ماسيمو فيدل كاسترو الأب الروحي للجزيرة، إلاَّ أن هذا الاستنتاج مُبالَغ فيه، وخصوصاً أن لا شيء ملزِم لهافانا كي تقوم بذلك، فضلاً عن أنها حرَّرت الكثير من القيود على النشاط المسيحي، ما خلا تلك المنظمات الأميركية التي تعتقد أن أهدافها أبعدُ من النشاط الديني الكلاسيكي، بل لصالح أطراف في اليمين الأميركي.

ما يهمنا من تلك التجربة الفاتيكانية/ الأميركية/ الكوبية، هو التأمّل فيها والتساؤل: لماذا لا تحدث مثل تلك المساعي في عالمنا العربي والإسلامي وعلى يد رجال من هذيْن العالَمَيْن. بمعنى آخر: توجد لدينا شخصيات إسلامية مرموقة على مستوى العالم، ومؤسسات دينية مضى عليها أزيد من ألف عام، لذلك: لماذا لا تقوم هذه الشخصيات بدور مماثل (لما قام به البابا) تجاه دول عربية وإسلامية تتناحر وتتقاتل فيما بينها في أكثر من مكان؟!

للأسف، تُترَك الساحة للتكفيريين، وتجار الدَّم والشَّتم الطائفي، كي يُديروا دفَّة الأمة، فتسري مشاريعهم وكأنَّ لا بديل جيداً ينافسها. نحن لا نتحدث عن الشخصيات التي أحرقت العالم بفتاوى الفتنة والافتئات، والتحريض على القتل، والتي لم تعد لها شرعية دينية ولا أخلاقية، بل الحديث عن المقبول من العلماء، الذين يتوخَّون الاعتدال في منهجهم الإسلامي من غير حَصْر.

اليوم، يقبل العالم الغربي «العلماني» من قيادات روحية فيه دوراً إيجابيّاً في تسوية مشاكله السياسية والاجتماعية ويستفيد منها، بينما العالم العربي والإسلامي، والذي لايزال في نزعته المحافِظة لا يطرق مثل هذه الوسائل ولا يستفيد منها في إنهاء صراعاته التي أتعبت وأرهقت الناس! مع العلم، بأن هذه القيادات لديها القدرة على فعل وتحقيق نتائج إيجابية في هذا المسار.

الأمل هو أن نتنبّه إلى هذا الأمر، فلربما كان فيه الشفاء لأدوائنا السياسية.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4772 - الأربعاء 30 سبتمبر 2015م الموافق 16 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 2:46 ص

      تجربة السيد الحكيم مع عبدالناصر

      توسط المرجع الديني الراحل الإمام محسن الحكيم لدى جمال عبدالناصر كي لا يعدم سيد قطب ولكن مساعيه لم تفلح . ورغم ذلك كانت محاولة لم تنجح في مصر لكنها نجحت في اماكن اخرى

    • زائر 6 | 1:00 ص

      أين هي المؤسسات الدينية المعتدلة؟

      أول مؤسسة سوف يشار إليها هي طبعاً الأزهر. أين إعتدال الأزهر وهو يرى شعبا كشعب اليمن يباد يومياً ونساؤه وأطفاله تحرق ولا يحرك ساكناً؟ هل بإمكانه أن يكون محايدا ونزيها؟ وثانيا أي مؤسسة شيعية لن تقبل آراؤها ولا مشورتها.
      مع الأسف لا يمكن إيجاد حل لما نحن فيه من تشرذم للأمة إلا بتدخل أجنبي خارجي يضغط على الأنظمة السياسية فتربط كلاب الإرهاب وتقتلع الدكتاتوريات ويعم الأمن إن شاء الله.

    • زائر 5 | 12:47 ص

      حالنا سيء

      رجال الدين لدينا اما هم مهادنون او محاربون لا يستمعون لهم الا لمن وافقهم الراي

    • زائر 1 | 12:13 ص

      صباح الخير

      معلومات ثرية وافكار غنية كالعادة

اقرأ ايضاً