العدد 4775 - السبت 03 أكتوبر 2015م الموافق 19 ذي الحجة 1436هـ

المسجد الأقصى بين عصرين

رضي السماك

كاتب بحريني

مما له مغزى ومفارقة تاريخية لايخلوان من العِبر والدروس عما وصل إليه العرب والمسلمون اليوم من حال مأساوي لا يُحسدون عليه حتى باتت الكلمات لا تفي بحق نعته، بل قد لا نبالغ إذا ما وصفناه بأنه غير مسبوق تاريخيّاً منذ البعثة النبوية الشريفة قبل ألف وأربعمئة سنة فيما يتعلق بتراجع وتردي مواقفهم ووحدتهم المفترضة من القضية الفلسطينية، سواء على الصعيد الرسمي أم على الصعيد الشعبي، نقول: مما له مغزى ومفارقة تاريخية أنه في الوقت الذي كانت فيه قطعان المستوطنين تصول وتجول مدنسةً ومنتهكةً باحة المسجد الاقصى فإن ذلك جرى بالتزامن مع مرور 46 عاماً على حرق المسجد الاقصى (أغسطس /آب 1969) والذي تم على يد السائح النصراني المتهود مايكل دينس الاسترالي الجنسية حيث التهمت النيران كل محتويات الجناح الشرقي للجامع القبلي من الجهة الجنوبية من المسجد الأقصى، وجاء الحادث بعد عامين فقط على حرب العام 1967 التي هُزمت فيها جيوش مصر وسورية والأردن أمام جيش العدو الاسرائيلي والتي اسفرت عن احتلال شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية والضفة الغربية الفلسطينية التي كانت في عُهدة الأردن حينذاك. وفي وقت كان الضمير العربي والاسلامي مازال في أوج صحوته، فقد أحدثت تلك الجريمة حينها زلزالاً كبيراً من الاحتجاجات القوية الصاخبة داخل القدس وفلسطين وعدد كبير من الدول العربية والاسلامية.

والأهم من كل ذلك، فمثلما كانت القضية الفلسطينية هي الباعث الأول لتنادي القادة العرب في مصر لإنشاء جامعة للدول العربية في اواسط اربعينات القرن الماضي في بواكير التآمر الغربي - الصهيوني على فلسطين وتزايد الهجرة اليهودية المنظمة اليها لإنشاء دولة يهودية، فإن حريق المسجد الأقصى كان الباعث الرئيسي لتنادي أقطاب الدول الاسلامية لانشاء منظمة المؤتمر الاسلامي. وعلى رغم الطابع الرسمي لهاتين المنظمتين لتعبيرهما عن إرادة الأنظمة العربية والاسلامية أكثر من تعبيرهما عن إرادة وطموحات شعوبها عالية السقف في نصرة القضية الفلسطينية والتصدي للاحتلال الاسرائيلي بشتى الوسائل المشروعة لدحره وتحرير كامل الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، فإن المنظمتين ظلت دولهما تخشى فعليّاً من العواقب السياسية الداخلية لتخليها عن هذه القضية، وظلتا تُعبّران في مؤتمراتهما السنوية وعلى مدى نحو عقدين حتى بدايات الثمانينات بالحد الأدنى المعقول في التضامن مع الشعب العربي الفلسطيني ودعم حركة تحرره الوطنية بمختلف الأشكال؛ بل وحتى التنديد الشكلي الصريح أو غير المباشر بالقوى الكبرى الغربية المتحالفة مع اسرائيل والحركة الصهيونية وعلى رأسها الولايات المتحدة.

ولا يقارن ذلك الحرق الذي ارتكبه بحق جزء من المسجد الشريف ذلك السائح الاسترالي المتهود قبل ما يقرب من نصف قرن وبتواطؤ من سلطات الاحتلال التي بررت الحادث بأن فاعله مُختل العقل على رغم بشاعته وادانة هول فعلته بما له من مكانة مقدسة كبرى في نفوس الفلسطينيين والعرب والمسلمين، المسجد بأبعاده الدينية والوطنية والقومية، لا يُقارن ألبتة بما فعله و يفعله الاسرائيليون اليوم والمستوطنون من انتهاكات فظة بحق المسجد بمباركة ودعم وتحريض الحكومة الاسرائيلية بقيادة رئيسها العنصري الصهيوني المتطرف نتنياهو؛ لكن انظر معي كيف أضحت اليوم ليس فقط مواقف الدول العربية والاسلامية من المسجد الاقصى والقضية الفلسطينية، وما بلغته من تخاذل ولامبالاة بهما، هي الغارقة حتى النخاع في أزماتها الداخلية وحروبها الاقليمية فحسب، بل ومواقف قيادات الشعب التي يُفترض أنها المعنية الأولى بقضية شعبها وقضية المسجد الأقصى وتحمل التبعات التي تفترض تعزيز وحدته، وتعزيز صموده لتحرير وطنه من ربقة الاحتلال حتى وصل الخزي والعار بالسلطة الفلسطينية إلى درجة تناوب عشرة من الشرطة الفلسطينية على الضرب المبرح بالهراوات بحق صبي فلسطيني قرب مخيم العزة قرب بيت لحم في سياق قمعها هجوماً عنيفاً للفتيان الفلسطينيين على نقطة تفتيش اسرائيلية احتجاجاً على انتهاك المسجد الأقصى.

ولأننا نعيش في عصر غابت فيه منظمة التحرير الفلسطينية المجسدة لهوية ونضال الشعب الفلسطيني بكل فصائله وقواه المقاومة من أجل تحقيق تقرير المصير والتحرر الوطني وحلت محلها سلطتان تتنازعان احتكار تمثيله: الأولى تحت قيادة «فتح» في رام الله تذعن لسلطات الاحتلال وتستميت قيادتها في التشبث بكراسيها، والأخرى في قطاع غزة تحت قيادة «حماس» محاصرة وشعبها من سلطات الاحتلال ومع ذلك لا تختلف عن الأولى في حُب الكراسي حتى لو كانت على بلدية قرية فلسطينية، ولأننا نعيش في عصر باتت فيه اكثر مهام الجماعات الاسلاموية المتشددة الحاحاً ليست قضية المسجد الأقصى، ثالث الحرمين وأولى القبلتين، بل ممارسة أعمال الارهاب باسم الاسلام والتدخل الفظ في شئون الشعوب العربية، واختطاف قضاياها المصيرية الداخلية من أهلها الشرعيين بقوة السلاح والارهاب كما في سورية والعراق وليبيا، والى حدما في مصر وتونس، بحجة اقامة دولة الخلافة الاسلامية، ولأننا نعيش أيضاً في عصر تنشغل فيه الجماعات الاسلاموية نفسها المسلحة بنسف المساجد على الهوية المذهبية كما تمارسه» داعش «وبعض الأنظمة العربية ، ناهيك عن تدمير أضرحة أولياء الله الصالحين والمقامات الدينية التاريخية ، فهل غرابة بعد هذا وذاك إذا ما أضحت اليوم قضية مسجد المساجد «المسجد الأقصى» يتيمة غريبة على العرب والمسلمين؟

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4775 - السبت 03 أكتوبر 2015م الموافق 19 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً