العدد 4786 - الأربعاء 14 أكتوبر 2015م الموافق 30 ذي الحجة 1436هـ

اللَّكَمات بدل الكَلِمات

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

جزءٌ من برامج الإعلام العربي تحوَّلت مع شديد الأسف إلى مجرد صراخ. ليس صراخاً فقط بل إلى لَكَمَات أيضاً! هذا الوصف ليس مجازياً كأنْ نقول بأن ما يُكتَب ضدّ الطرف الآخر أو الخصم هو بمثابة «اللَّكْمَة» بسبب قوة سَبْكِه ونَظْمِه وحُجّته بل هي لَكْمة حقيقية وباليد، وفي أحيان أخرى برمي الأشياء على الخصم كيفما اتفق عندما يكونون في الأستوديو وعلى الهواء مباشرة.

في أحيان أخرى، لا يصل الأمر إلى الضَّرب ورمي الأشياء لكن النظرة الشزراء والكلام البذيء يحل مكان ذلك. شتيمة وسُباب ولعن وكأننا في جَمْجَمَة شوارعية بين سُكَارى، في حين كان التقديم والتعريف بهم على أنهم مفكرون أو سياسيون أو مديرو مراكز دراسات إستراتيجية وخلافها وهو ما لا يليق. فهو أمر لا يُؤثر على صورتهم كـ «مثقفين مفتَرَضين» بل على صورة المشهد الثقافي العربي برمَّته كونهم يُمثلونه في النقاشات التي تجري على هامش الأحداث والوقائع.

ليس ذلك فحسب، بل إن ذلك يُسَخِّف حتى بالقضايا المطروحة ويجعلها مُمِلَّة وبلا مضمون. فإذا كان مَنْ يتناولونها هم بهذه الطريقة وهم الطبقة المثقفة «افتراضاً» والتي هي حتماً صفوة المجتمع في أيّ مكان فما بال العوام، الذين يُعوّلون في قراءتهم للأشياء على ما أنتجه لهم مجتمعهم من عقول، فضلاً عن أنهم «قد» يدخلون في حالة تشويش من هذه الرّدود وردّ الرّدود المتشنِّجة، وهو ما يزيد من الضبابية على المجتمع ويجعله في حالة بلبلة وضياع في البوصلة.

فبعض المتحاورين، يلجأون إلى بَهْتِ الآخر والافتئات عليه، والقول فيه كذباً. فهم يعتقدون بأن عليهم أن ينتصروا على غريمهم بأي وسيلة، حتى بالكذب في حقه، لذلك، فقد يرمون كِذبة لا أصل تتعلَّق بشخص الطرف الآخر كأن يتهمونه في أصله أو عرضه أو أيّ شيء قبيح، فيتلقفها ملايين المشاهدين، الذين قد يُصدقونها «ولو نصفهم» ويتم تداولها على أنها حقيقة، وبالتالي تتشوَّه صورة الطرف الآخر بطريقة كاذبة لا أساس لها، وتتشوه معها القضايا والأفكار.

الحقيقة، أن مسألة النقاشات الموتورة لها وجه آخر، تتعلق بحقيقة اللسان ومدى حجّته على الناس، وكيف أنه يأتي في أوضع المنازل في إقامة الحجَّة وبث العلم والأفكار. وقد أشرت قبل بضعة أشهر وفي أحد المقالات أن مثل هذه النقاشات لم تكن «يوماً دليلاً على موت فكرة وحياة أخرى، ولا صواب الأولى أو خطأ الثانية؛ لأن الأفكار أعمق من ساعة بث واحدة يكثر فيها الصراخ». وذكرت حينها قولاً للإمام علي بن أبي طالب يقول فيه: «أوضعُ العلم ما وقف على اللّسان، وأرفعه ما ظهر في الجوارح والأركان» وهو ما يعني ضعف مكان اللسان أمام غيره من الجوارح.

أرجع إلى حقيقة النقاش والحوار وأصوله. فهذه المسألة كانت في السابق رائجة عند علية القوم وزعماء الدول منذ ما قبل الإسلام حتى. فالمناظرات كانت تجري في مجالس الملوك والخلفاء. وعلى الرغم من أنها كانت تجري بين أشخاص مختلفين إلاَّ أنهم كانوا يتوخّون الأدب. وقد اشتُهِرَت مناظرات الصحابة والأئمة. واشتُهِر النحاة بمناظراتهم كما حصل بين الكسائي وسيبويه، والأخفش والعبّاس بن الفرج الرّياشى. كما اشتُهِر سَهْل بن أحمد بن علي بن أحمد بن الحسن الأَرْغِيَانِيّ في مناظراته، وكذلك القاضي أبوبكر بن الطيب وابن الصدفي، وكانت كلها حوارات راقية.

حتى المَوالي كانت تناظر الأسياد (بمنطق ذلك الزمان) ولم يكن في ذلك غضاضة رغم ما كان العبيد والإماء يشكلونه في المجتمع العربي والمسلم في ذلك الأوان من نمط مجتمعي أدنى. فقد ناظر ذكوان مولى الحسين بن علي ابن الزبير، مُردداً قول الرسول (ص) «مولى القوم منهم» قائلاً «فأنا مولى رسول الله (ص) وأنت ابن العوّام ابن خويلد» فلم يردّ ابن الزبير عليه بضرب أو سيف بل قال: «إني لست أجيب هذا»!

بل كانت تجري حتى بين الصغار والكبار سناً. فقد ذكر الميداني في معنى قول: «إنَّ الْبَلاَءَ مُوَكَّلٌ بالمَنْطِق» المناظرة الشهيرة التي جرت بين أبي بكر الصديق وبين غلام يُدعى دغفل «قد بَقَلَ وَجْههُ»؛ أَي أَول ما نبتت لحيته، عندما أراد النبي (ص) أن «يَعْرِضَ نفسَه على قبائل العرب» وكان أقصى ما فعله أبوبكر مع ذلك الغلام أنه «اجتذبَ» زِمام ناقته فرجع إلى رسول الله، بحسب وصف الميداني.

وقد وجدت نصاً لابن خلدون حول ما يجب أن يُراعى في المناظرات حيث يقول «فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعاً، وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يُرسل عنانه في الاحتجاج ومنه ما يكون صواباً ومنه ما يكون خطأ، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آداباً وأحكاماً يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول، وكيف يكون حال المستدل والمجيب، وحيث يسوغ له أن يكون مستدلاً وكيف يكون مخصوصاً منقطعاً ومحلّ اعتراضه أو معارضته، وأين يجب عليه السكوت ولخصمه الكلام والاستدلال، ولذلك قيلَ فيه إنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي وهدمه، سواء كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره».

اليوم، الإعلام العربي مُطالَب بأن يكون بمستوى الأحداث الجارية، والتي باتت مركز الاهتمام العالمي، ومن الخطأ أن يُواكبها إعلام أو بالأحرى برامج إعلامية مُشوِّهة أو مُضلِّلة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4786 - الأربعاء 14 أكتوبر 2015م الموافق 30 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 6:28 ص

      ليست مناضرات!

      إن هذه اللقاءات لا تستحق اسم مناضرة لأن معنى المناضرة هو المماثلة فالمناضرة يفترض أنها تبحث عن المشتركات بين المتناضرين والحال في هذه اللقاءات التركيز على أوجه الاختلاف، فالأولى أن تسمى منافرة.

    • زائر 5 | 4:33 ص

      جيب واحد مجنون وواحد عاقل واستمع للهرار

      احيانا يأتي الضيف المحترم ولديه الحجة والكلام الموزون والعقل الراجح لكن يتم اختيار ضيف آخر لا يجيد سوى الشتم والكذب والضرب على الطاولة وهنا تقع المصيبة وما اكثر البرامج الحوارية التي مرت علينا مثل هذه

    • زائر 3 | 2:05 ص

      حلبة مصارعة وليس جلسة نقاش

      في بعض الحوارات رمى أحد المتحاورين بكوب ماء على وجه المحاور الاخر وفي برنامج ثاني اقتلع محاور شاربه المزيف امام الناس والحبل على الجرار في الحوارات الاخرى حيث الضرب واللعن وكاننا في مستشفى الامراض العقلية

    • زائر 2 | 1:33 ص

      الغائب

      الجلوس و الاستماع الي الطرف المقابل مظهر للفكر المتطور. غياب الفكر و الغوص في دائرة معلوماتية ضيقة محدودة بالعقيدة الواحدة تمنع اي شخص من الاستماع للرأي المعارض. كم مفكر بيننا؟ كم منا يدرك جهله؟. تذكر بان المجنون لا يتعرف علي جنونه.

    • زائر 1 | 12:47 ص

      ألكذب اصبح الآن سلاح الكثير من

      الكذب والتزلّف والنفاق والدجل والفبركات اصبحت الآن اسلحة تستخدمها انظمة ويستخدمها افراد يريدون تسويق ما هو مكشوف للعالم الذي اصبح قرية صغيرة ولا يمكن اخفاء كل شيء وعلى الدوام

اقرأ ايضاً