العدد 4794 - الخميس 22 أكتوبر 2015م الموافق 08 محرم 1437هـ

عندما يختار الحاضر أسوأ ما في الماضي

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

لو أمعنَّا النظر في ظاهرة إصرار المجتمعات العربية على الالتصاق الشديد بتراثها، فإننا سنصاب بالحيرة.

ففي كثير من الحالات تختار تلك المجتمعات ذلك التراث الذي فرضه الاستبداد السياسي، عبر التاريخ العربي الإسلامي، من أجل مصالح سلطات الحكم، ومن أجل تطويع قوى المجتمعات، وبمباركة في أغلب الأحيان من قبل السلطة الدينية الرسمية، لكأن مجتمعاتنا توافق على أن يكون تاريخنا، وبالتالي تراثنا، ما رسمته ورعته سلطات السياسة الرسمية وسلطات الدين الرسمية.

يصدق ذلك على تراثنا الفكري والفقهي والسياسي والثقافي، ويمثّل فصلاً حزيناً في التعامل مع تراث تميَّز في بعض منعطفاته بألق الإبداع والتميُّز الإنساني.

دعنا نأخذ، على سبيل المثال، تراثنا التربوي، سواء في منطلقاته النظرية أو أهدافه التربوية أو ممارساته التعليمية، لنرى كم أن الحاضر التربوي العربي لم يستفد من منجزات الماضي الإيجابية الحميدة.

بعد الاحتكاك والتفاعل مع فكر وعلوم الحضارات الفارسية والهندية واليونانية طرحت مدرسة العقل، أي استعمال وتحكيم العقل في أمور الدين والدنيا، طرحت نفسها بقوة من خلال مجموعة كبيرة من الكتاب والفقهاء والفلاسفة، وذلك في مواجهة مدرسة النقل المكتفية باجترار نصوص وخطاب التراث الماضي من دون تمحيص ولا طرح أسئلة ولا محاولة تجديد.

تاريخ صعود تلك المدرسة العقلية وتألُقها في عصر المأمون، وخصوصاً مدرسة المعتزلة الشهيرة، وتاريخ تراجعها التدريجي من خلال بطش السياسة بعد ذلك معروف؛ لكن ما يهمنا أن تلك المدرسة أنتجت ثقافة عقلانية وفكراً تربويّاً تميزا بالغنى والحيوية، وقدَّما خياراً فكريّاً وثقافيّاً قابلاً للاستفادة منه في كل العصور.

في الجانب الثقافي الفكري أسسوا لمنهج الشك والابتعاد عن مسلمات التقليد، وأعطوا أهمية لطرح الأسئلة لتعريف المفاهيم ولتصنيف الأفكار، وفرقوا بين المعرفة التي حصروها في المعاني الجزئية، وبين العلم الذي يتعامل مع المعقولات والكليات، وأعطوا مكانة لمعرفة أسباب وعلل الظواهر الإنسانية، وأفسحوا مكاناً للتجريب للوصول إلى الحقائق العلمية، ومجدوا أهمية التنوع والاختلاف والنظر إلى الأمور من زوايا مختلفة، إذ يجد الإنسان قمة ذلك التوجه في قول شهير قاله أبوحيان التوحيدي: «إني لأعجب من ناس يقولون كان ينبغي أن يكون الناس على رأي واحد ومنهاج واحد، وهذا ما لا يستقيم ولا يقع به نظام».

ما كان لتلك الثقافة الفكرية العقلانية إلا أن تقود إلى فكر تربوي عقلاني جديد في مواجهة فكر تربوي تلقيني كان يسود تلك المجتمعات، من أبرز تلك الأفكار التربوية:

1- إعلاء وظيفة المدرسة التربوية، التي تعنى بالنمو والسمو في الحياة الإنسانية من خلال تنمية قدرات الفرد العقلية والنفسية، وتجعله فرداً مستقلاًّ في جماعة، على وظيفة المدرسة التأديبية التي تقمع شخصية الفرد وتصوغ عقله ومشاعره وسلوكه بحسب إملاءات مؤسسات السيطرة والكبار في المجتمع.

2- نفي التعارض بين الحكمة والفلسفة من جهة وبين الدين من جهة أخرى، والتي لخصها الفيلسوف الكندي في قوله: إن «صدق المعارف الدينية يعرف بالمقاييس العقلية» .

3- نادوا بأهمية تثقيف العامة والانفتاح على علوم وثقافات الآخرين، وبالتسامح الفكري، وبضرورة الاختلافات في الفكر والمعتقدات.

4- أبرزوا الأهمية القصوى للوظيفة الاجتماعية للتربية كمدخل لإصلاح الاجتماع الإنساني وتحكيم العقل في مسار شئونه، ومن هنا رفضوا المقولات التي كانت تحصر العلوم بعلوم الدين فقط، بل ربطوا العلوم بتهيئة الناس للمهن والصنائع والمعيشة اليومية عندما ربط ابن خلدون التربية بالعمران والاجتماع البشري وبإصلاح السياسة.

5- لقد طرح أبن خلدون فكرة «إثبات ملكة العلم في نفوس المتعلمين»، أي حب العلم لذاته والقدرة على التعلُّم مدى الحياة. ومن هنا رفض ابن خلدون قسوة التعامل مع الأطفال التي تقود إلى انحرافهم السلوكي، ورفض حشو عقول المتعلمين بالمعلومات التي لا نفع منها، وشدَّد على أهمية التدرج في التعليم والأخذ في الاعتبار قدرات الطالب.

تلك أمثلة منتقاة من تراث تربوي هائل فصّله المرحوم محمد جواد رضا في كتابه «العرب والتربية والحضارة».

نعود فنطرح السؤال مرة أخرى: لماذا لم يستفد الحقل التربوي العربي من ذلك التراث الثقافي والتربوي المبهر، والذي يتلاءم كليّاً مع أفضل التوجهات التربوية الحديثة، لينتج مدرسة تُخرّج بشراً عقلانيين، قادرين على طرح الأسئلة، ملتزمين بقضايا مجتمعاتهم العادلة، مستعملين وسيلة الشك للوصول إلى اليقين، قادرين على التعلم الذاتي، متسامحين مع الآخرين المختلفين؟

والجواب هو أن سلطات السياسة والفقه المتزمت الخادم للسلاطين قد فرضا عبر العصور مدرسة التلقين والتقليد وتقديس الماضي، ومع الأسف فإنَّ حقل التربية العربي الحديث لم يرد أن يتعب نفسه ويختار مدرسة المفكرين والمجددين بدلاً من المدرسة المفروضة من قبل سلطة الخلافة وغريمتها سلطة الفقه المتخلف الخائف من أنوار العقل.

لو انطلقت التربية العربية الحديثة من التراث الفكري التربوي العقلاني الإنساني ذاك، وأضافت إليه منجزات العصر التربوية لكانت المدرسة العربية والجامعة العربية اليوم بألف خير.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 4794 - الخميس 22 أكتوبر 2015م الموافق 08 محرم 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 6:07 م

      ياريت يا دكتور

      اصحاب القرار يفهمون

    • زائر 3 | 7:28 ص

      والاسوء منه

      حينما يرث الانسان دينه بلا مطالعه وتحقيق واستدلالات للوصول للحقيقه. وكما ذكر الله سبحانه وتعالى انا وجدنا آبائنا على امة وانا على اثارهم مهتدون.

    • زائر 1 | 2:29 ص

      الأسوء إستحضار التاريخ الإسلامي الماضي عن طريق ما كتبه

      أنصار المذاهب الإسلامية المختلفة وجعل هذه الكتب مقدسة وهي الحاكم على الحاضر كأنه اتباع المذاهب المختلفة مذنبين لما حصل في الماضي وكأنه هذه الكتب في تاريخ المذاهب المختلفة هي الثقل الأكبر و حجة الله سبحانه وتعالى في الارض

اقرأ ايضاً