العدد 4797 - الأحد 25 أكتوبر 2015م الموافق 11 محرم 1437هـ

العراقيون وقضية الحزن والبكاء

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يتميَّز العراقيون بالصوت الحسن ودوام تطريبه. ولو بحثت بين كل عشرة عراقيين فلابد أنك ستظفر بعدد منهم يجيدون مَدّ الصوت وتحسينه. وربما لم يحالف الحظ كثيراً من النسوة العراقيات كي يُظهِرنَ مواهبهنَّ الصوتية بَعدُ لاعتبارات دينية واجتماعية، وإلاَّ لأصبح العراق أيقونة في ذلك.

لكن، من الأشياء اللافتة هو مَيْل العراقي نحو الحزن والبكاء أكثر من غيره، إلى الحد الذي لا يكاد المرء أن يُفرِّق بين فرح العراقيين من ترحهم في الصوت. بمعنى، أن نغمة السعادة والحزن تكاد تكون متقاربة جداً عندهم. وكم سُمِعَت «مواويل وأناشيد» عراقية طربة وظُنَّ أنها تقال في الحزن والعزاء والعكس كذلك. وكل مَنْ سمع نتاج الفنانين العراقيين استطاع أن يقف على ذلك.

بل كيَّفَ العراقيون حتى الأطوار الأخرى في الألحان وبيَّؤوها عراقياً وبالصوت العراقي الحزين، كالحجاز الديوان في مقابل الزحف التركي والدَّشْت الفارسي والزازا الكردية وغير ذلك. وهذا الأمر جدير بالتأمل.

ومن الأشياء اللافتة هنا، أن هذه المقامات والأصوات العراقية الحزينة تخطَّت كل التصنيفات الطائفية حين جمعها مَيْل العراقي إلى البكاء والحزن، فوجدنا حناجر سُنّيَّة نَعَتْ الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وواقعة كربلاء، كما كان يفعل قارئ العراق الأعظم في القرآن الكريم الشيخ وليد الدليمي، والملا بكر الكردي وغيرهم. وهو أمر جدير بأن يُبحَث لتفسير شخصية الفرد العراقي وتكوينه الديني والاجتماعي.

وربما يُرجِع البعض تفسير ذلك (غَلَبَة الحزن في المقامات العراقية) إلى تاريخ العراق حين كان مركزاً للخلافة الإسلامية لسنوات طويلة، وما صاحبها من تطورات سياسية واجتماعية كبيرة، تخللتها الحروب والصراعات، وبالتالي خلقت نوعاً من الميل نحو البكائيات والنعي، فتأثرت الأشعار وطريقة الإنشاد والغناء والنعي وغيرها من الأطوار. لكن هل هذا التفسير صحيح أم لا؟

الجواب على ذلك، هو في كتاب ثمين، أصدرته دار جداول تحت عنوان: «المناحة العظيمة.. الجذور التاريخية لطقوس البكاء في الجاهلية والإسلام» لمؤلفه الباحث العراقي فاضل الربيعي. والحقيقة أن ما طُرِحَ في هذا الكتاب جدير بأن يُقرأ ويُناقش في طريقة تفسيره لظاهرة البكائيات العراقية.

يبحث الكاتب مسألة البكائيات العراقية من زاوية جديد. فهو أولاً ينفي تأثر العراقيين في نعيهم وإقامتهم الطقوس الدينية بالدولة الصفوية التي كان العام 1511م أوج نفوذها في العراق، بل هو يعتبر أن مشتركاً جَمَعَ الإيرانيين والعراقيين في تلك البكائيات سَبَقَ الدولة الصفوية، بل سَبَقَ حتى الإسلام والتشيُّع من أساسه، وذلك باتصاله بحضارات قديمة منذ ثلاثة آلاف عام، وبالتالي فهو يعتقد بأن الفرس هم مَنْ تأثَّر بذلك المشترك حين كان في العراق دولة الآشوريين الكبرى.

يذكر الكاتب أن «طقوس النُّواح الجماعي» كانت «منتشرة في مدن وقرى وبلدات الامبراطورية الآشورية – البابلية الجديدة» حزناً على الإله تموز الذي كانوا يعتبرونه شهيداً. بل إنه وخلال تمدّد تلك الامبراطورية نحو البحر الأحمر ومصر، ظهرت تلك الطقوس هناك على حدود مصر.

وهنا يشير إلى سفر حزقيال في التوراة وكيف أن أنبياء اليهود دأبوا على تقريع بني إسرائيل عندما وجدوهم يتأثرون بالوارد من العراق القديم في النُّواح والبكاء على الإله تموز. بل يذهب إلى أكثر من ذلك حين يشير إلى أن بكاء اليهود عند حائط المبكى هو من تأثيرات الآشوريين وليس عادة يهودية خالصة، وبالتالي إثبات تأثيرها على المصريين القدماء. وحتى الصليب المستخدم عند المسيحيين والهلال عند المسلمين كانا مستخدمَيْن عند تلك الحضارات أيضاً، ذاكراً شواهد عجيبة من التراث القديم تثبت ذلك.

يذكر المؤلف نصاً مهماً آخر أورده المؤرخ اليوناني هيرودوت قبل أزيد من 2500 عام من الآن يرصد فيه ما شاهده خلال زيارته طقوس المصريين القدماء السنوية بموت الإله إيزيروس داخل معبد شقيقته أيزيس، حيث يقول: «إنهم جميعاً رجالاً ونساء يضربون صدورهم بعد أن يُقدِّموا الأضحية تعبيراً عن الحزن». أما الكاريين منهم وهم أجانب من سكنة مصر «فإنهم يجرحون جباههم بالسكاكين».

كانت طقوس الآشوريين في البكاء تُعقد على شكل مواكب دموع ونواح على تموز الشهيد «رمز الخصب والنماء والخير» وهو أمر وُجِدَ في مصر أيضاً ولكن على الإلة إيزيروس كما ذكرنا. وقد ظلت هذه المشاهد لقرون تالية بعد انتهاء زمن الآشوريين مدة ألفَيْ عام حتى الحقبة السلوقية. كل هذه المشاهد الثقافية ظلت في الوجدان العراقي حتى ظهور الإسلام، حيث «قامت على أساس روحي مختلف». ثم يمضي في تفسير العديد من الظواهر الحالية في العراق (وإيران حتى) ويقاربها بما كان متّبع في السابق، حيث يظهر أن الاختلاف هو في مسميات الأشياء ولكن جوهرها يكاد يكون واحداً.

ويشير إلى أمر مهم يستحق التأمل، وهو أنه وحين أصبحت «أجزاء واسعة من مملكة الحيرة مسيحية على المذهب السنطوري» استمر العراقيون في الاحتفالات البكائية، «ولكن بدلاً من تموز القتيل حلَّ المسيح المصلوب، وبدلاً من تموز الذي يُبعث حياً فيبتهج المزارعون ويحتفلون بيوم بعثه، حلَّت صورة المسيح الذي سينهض إلى قيامته الموعودة». وفي كل مرة تخلق التراجيديا لها أحداً.

لذلك يخلص الباحث إلى نتيجة بشأن تفسير جنوح العراقيين المفرط اليوم في البكاء والحزن وهو لأنهم يرثون في لاوعيهم ما كان يفعله السومريون والبابليون والآشوريون وهم أصحاب ذات الأرض «حتى وإن تباعدت أصولهم وجذورهم وسلالاتهم القبلية والأسرية» وهو أمر يسري على كل المكوِّنات العراقية الأساسية كالسُّنة والشيعة والأكراد وحتى المسيحيين.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4797 - الأحد 25 أكتوبر 2015م الموافق 11 محرم 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 19 | 5:26 ص

      العراقيون و قضية الحزن و البكاء

      الموضوع طويل واجد و فيه تفاصيل ما ليها داعي. حسيت ان ضيعت وقتي بقراءة المقال.

    • زائر 18 | 5:25 ص

      صباح الخير

      لماذا تبكي على فقد أحد من أبنائك أو واللديك أو زوجتك( اذا لم تبكي أو تتباكئ) أنصحك استشاره طبيب نفساني ما نراه اليوم من قطع الرؤس "اكل الأكباد بكل شراسة هل هائولاء من البشر كلا والف كلا قلوبهم جوفاء كما وصفهم القرآن الكريم قلوبهم أشد من الحجر ومن الحجر يتفجر منه الماء فتاوى بعض علماء الجهل عن ذكر مصيبة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات ربي عليه إنما المراد منها الابتعاد عن لعن قتلت الحسين

    • زائر 17 | 5:11 ص

      صباح الخير

      يأاخي في إلاسلام أنصحك الابتعاد عن فتاوى التأسيس النبي وآله بيته هم أول من بكي الحسين راجع صحاح السنه حديث الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أم سلمة رضوان الله عليها وما يجري على حفيده في يوم العاشر من محرم الحرام بالله عليكم من تدعون انكم محبي للرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم هل كان يرضى أن يرى الحسين يذبح كل الكبش من أمه مسلمه البكاء رحمه يا أخي الكريم

    • زائر 16 | 4:59 ص

      صباح الخير

      الله يهذيك ويسلمك انت لا تبكي على الحسين خير الخلق بعد جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم واخاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وامه سيده نساء العالمين من الأولين والآخرين وأخيه الحسن المجتبى عليهما صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لماذا بكي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبكى من معه من الصحابه لماذا ابكي الله سبحانه وتعالى نبي الله يعقوب حتى فقد بصره اصبحتم أمه لا تقرأ 'لا تفقه من شي

    • زائر 14 | 4:49 ص

      التعساء لتعاستهم المزمنة حولوا البكاء و الحزن إلى فضيلة

      هذا هو واقع العراقيين، حتى طربهم و غنائهم حزين!

    • زائر 13 | 4:42 ص

      صباح الخير

      نعم ولماذا تلوم اليهود هناك فرق شاسع بينهما الأول الكنعانية وغيرهم الأسماء الكثيره هم سكان القدس أما الصهاينه والصهيونية العالميه صناعه بريطانيا التي هجرت اليهود إلى فلسطين المحتلة زجدت بها الاستعمار وزرعتها في القدس الشريف

    • زائر 11 | 2:59 ص

      ايران هي السبب

      ايران هي السبب

    • زائر 9 | 2:24 ص

      حقيقة و واقعة.

      في الستينات من القرن الماضي كنت أدرس في جامعة بغداد. كان هناك زميلات معنا يرتدن السواد طوال فترة الجامعة و بعدها بسبب موت قريب منهن. اكثر اغان العراق ملحنة بمقام " الصبا". كما اخبرني موسيقي. هذا اللحن حزين و لم يتمكن العراقيون من الخروج من هذا الإطار بسبب النكبات التي تتوالي عليهم. كل واحد فسر المآسي المتسلسلة حسب مزاجه و منطقه الخاص.

    • زائر 7 | 1:36 ص

      وماذا تهدف انت من مقالك؟

      حزن الشعب العراقي مرتبط بمصيبة الامام الحسين الذي بكاه النبي صلى الله عليه وآله يوم ولادته وحيث اكثرية الشعب العراقي شيعة فغالبيتهم يبكي مصاب الأمام الحسين عليه السلام وحيث ان مكان المصاب بأرضهم فحتما هم اكثر الناس تأثرا به.
      فلا يعاب على شعب يرثي سبط الرسول الاكرم الذي قتل ابشع قتلة من قبل الجيش الاموي

    • زائر 8 زائر 7 | 2:18 ص

      الله يهديك

      الناس تدور الاناسه وانت تتكلم عن ناس تعشق الكابه طول السنه تبسم في وجه أخيك صدقه

    • زائر 6 | 1:15 ص

      الشيء بالشيء يذكر

      يذكر السيد اياد جمال الدين، ان احد الملائيين في النجف كان ينعى في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بكلمات اغاني عاطفية مشهورة بذلك الزمان ولكن بطريقة بكائية تجعل من سامعيه يبكون بطريقة هستيرية دون الانتباه الى الكلمات التي يقولها وهي في الغالب غزلية لاتتوافق مع حب ال البيت باي شكل من الاشكال، وكانوا يغدقون عليه المال بحب الحسين وآله...
      محبتي الدائمة لك استاذ محمد

    • زائر 5 | 1:14 ص

      الشيء بالشيء يذكر

      يذكر السيد اياد جمال الدين، ان احد الملائيين في النجف كان يقوم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ينعى بكلمات اغاني عاطفية مشهورة بذلك الزمان ولكن بطريقة بكائية تجعل من سامعيه يبكون بطريقة هستيرية دون الانتباه الى الكلمات التي يقولها وهي في الغالب غزلية لاتتوافق مع حب ال البيت باي شكل من الاشكال، وكانوا يغدقون عليه المال بحب الحسين وآله...
      محبتي الدائمة لك استاذ محمد

    • زائر 12 زائر 5 | 3:52 ص

      حرة في قلوب البعض لتخليد ذكرى شهادة الامام

      الحاضر كما هو الماضي وكما اخبرت السيدة زينب لتجتهدن أئمة الضلال على محو ذكرى الامام الحسين فلا يستطيعون. من يحاول التشويه ومن يحاول المنع وتبقى ثورة الحسين عصية على الانكسار او الخضوع لظالم كاتب كان او من يتشبه برجال الدين او خائن لامته اخفقوا وبقيت قضية الحسين

    • زائر 15 زائر 5 | 4:54 ص

      تعليق على زائر 12

      صدقت فهناك من يحاول تشويه قضية الحسين بممارسات ما أنزل الله بها بغية تحويل القضية الى خرافات وجهالة

    • زائر 2 | 12:18 ص

      اسرار

      كلام كاتب المقال عين الصواب...يوجد لدينا روايات نحن اهل البيت بأن الله اختار ان يقتل الإمام الحسين في ارض العراق لأن هذا الأرض خصبة لتوصيل الرسالة الإلهية للخلق اجمعين حتي لا يكون هناك اعذار علي عدم اتباع رسالة الحق...

    • زائر 3 زائر 2 | 1:03 ص

      رد على تعليق

      المسألة ليس لها علاقة بالتفسير الديني هي متعلقة بإرث تاريخي، والا فإننا لا نلوم اليهود عندما يدعون بأن أرض فلسطين لهم

    • زائر 10 زائر 2 | 2:38 ص

      اخي

      ارض عراق غير غدر وقتل ودم مافيها من عصور مضت الى اليوم للاسف عراق ضاعت

    • زائر 1 | 11:35 م

      ناظم الغزالي

      من يسمع ناظم الغزالي لا يعرف هل هو ينعى أم يغني

اقرأ ايضاً