العدد 4818 - الأحد 15 نوفمبر 2015م الموافق 02 صفر 1437هـ

المتحوِّلون مذهبيّاً

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لكل حرب أدواتها. فكما في الصراعات التقليدية، تلعب قعقعة السلاح والحرب النفسية والحصار الاقتصادي والأداء السياسي دورها، فإن للحروب الدينية أدواتها كذلك. من بين تلك الأدوات هو تشجيع الناس على تغيير مذاهبهم، كي يتحوَّلوا إلى سلاح استقطابي في معركة دينية طويلة لا نهاية لها. فالمتحوِّلون (الذين يتم توظيف تحوّلهم في وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية والاحتفالات العامة) يُصبحون إحدى أهم أدوات الضرب تحت الحزام، وإحداث رضوض معنوية ونفسية في الأطراف المذهبية المتصارعة.

وفي ظل وجود قنوات فضائية طائفية لا مسئولة، تُذكِيْ مَعْمَعَان حرب كريهة بين المذاهب، غُرّ الواثق فيها، وخُدِع الْوَامق، وكذب الناطق، ومَلَّتِ العاتق، باتت ظاهرة التحوُّل المذهبي بضاعة من بضائع التسويق لثقافة الكراهية وشتم المذاهب الأخرى وأتْبَاعها ورموزها بطريقة جعلت تلك الكراهية تتحوَّل إلى سكاكين جوَّالة، تبحث عن رقاب كي تحزَّها، وقلوب كي تأكلها، وبطون كي تبقرها.

في حاضرنا لم يعد التحوُّل في المذهب والاعتقاد نابعاً من بحثٍ عن أمان نفسي، أو سبراً لغور حقيقة ضائعة، أو لعقل جائع، أو إرضاءً لضمير وقلب تائِهَيْن، أو قناعات جديدة، بقدر ما أصبح مجالاً للتكسُّب من بين أرجل عصابات الحرب الطائفية، الذين يتخذون من الناس ضحايا، دون أن يرمش لهم جفن.

على مرِّ التاريخ الإسلامي كانت ظاهرة مَنْ يترك مذهبه ليتَّبِع مذهباً آخر موجودة، لكنها لم تكن كما هي عليه الآن من حيث الأهداف والمسلك. وكانت تلك التحوّلات تجري على كل مذاهب الإسلام بلا استثناء، وضمن مدارسه الفقهية والكلامية أيضاً.

لقد ترك شمس الدين الفرياني المغربي مذهب مالك وتحوَّل إلى مذهب الشافعي، وتحوَّل محمد بن جانبك الكنجي من الشافعي إلى المالكي. وتحوَّل أبو البركات من المذهب الحنفي إلى المذهب الحنبلي. وتحوَّل أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنبلي إلى الحنفية. وتحوَّل تقي الدين المقريزي من الحنفية إلى الشافعية ثم إلى الظاهرية. وترك ابن حبّان التميمي الظاهرية إلى الشافعية. وتحوَّل ابن الأمير من التشيُّع إلى التسنُّن. وتحول تاج الدين الآوي من التسنُّن إلى التشيّع. وترك عبدالملك الزوقان مذهب الأوزاعي ومال إلى مذهب المالكي. وتحوَّل شبل بن عمرو الضبعي من الإمامية إلى الشراة. وتحوَّل إبراهيم بن هلال الثقفي من الزيدية إلى الإمامية. وتحوَّل أبو جعفر النيسابوري من الإمامية إلى الشافعية وتحوَّل النعمان بن محمد بن منصور من المالكية إلى الإمامية. وتحوَّل أبو محمد ابن حزم من الشافعية إلى الظاهرية. وترك محمد بن خالد الجبّائى الاعتزال وصار أشعرياً.

بل إن العائلات كانت مشطورة في انتمائها الديني في العهود الماضية من تاريخ الإسلام الأول كما في حالة سالم بن أبي الجَعْدِ الأَشْجَعِي، حيث كان اثنان من أولاده إمامييْن، واثنان مُرجِّئيْن، واثنان على هوى أهل النهروان.

وقد ذكر الاسترآبادي في الفوائد أن أبا الحسن الأشعري ذاته ترك مذهب الاعتزال ومال إلى «طريق أبي محمّد عبدالله بن محمّد بن سعيد بن كلاب». وقد كانت الأسباب متعددة في عملية التحوُّل، لكن أغلبها كان طلباً في العلم والحقيقة، رغم عدم خلو تلك التحولات من دوافع شخصية وفي ذلك أمثلة.

بل حتى في الأديان، كانت العرب والشعوب المجاورة في التاريخ القديم تُبدِّل أديانها دون أن تشنّ حروباً على بعضها كالتي نراها. وكانت الدول والأمم في أحيان كثيرة، تدخل وتخرج من (وإلى) الأديان طبقاً لحكامها، كما حصل مع النعمان بن المنذر عندما تأثر بوفاء الطائي الذي كَفَلَهُ قُرَاد بن أجْدَع، فتنصَّر وتنصَّر معه أهل الحِيرة كلهم، بعد أن كانوا يدينون بدين العرب، وأمر بهدم الغَرِيّيْن الذي كان «يُغَرِّيهما بدَمِ من يَقْتُله في يوم يُؤْسِه».

هذا الأمر جرى حتى في أوروبا أيضاً، خلال الوضع الديني الرجراج الذي لم تحسمه الكنيسة بسبب تغلُّب خلافات الطوائف على الوحدة. فالفيلسوف السويسري الفرنسي الأصل جاك روسو وُلِدَ لأسرة بروتستانتية ثم أصبح كاثوليكياً، ثم عاد روتستانتياً. لكن الصراع لم يكن مذهبياً بعد القرن الثامن عشر إبّان حقبة روسو، بل كان الخلاف على حسم الموقف من الدِّين والكائن الأسمى.

إذاً، كان التحوُّل المذهبي موجوداً في كل الأديان والعصور، وداخل الدِّين الواحد، إلاَّ أنه لم يكن بذات الدوافع أو لنقل التوظيف الذي نجده الآن. فالذي يحصل اليوم، هو أن ينبري المتحوِّلون مذهبياً متوخِّين مسلكاً متطرفاً في النظرة للآخر، وبالتحديد تجاه المذهب الذي تركوه، فلا يُبقوا شيئاً من الشتيمة والسخرية والتهجُّم على رموزه ومعتقداته إلَّا وفعلوه، وهذه هي المشكلة، حيث يُشكِّل ذلك الخطاب شحناً في الطرف الآخر، لتبدأ ساقية الحقد تدور من جديد فتمتلئ الصدور حنقاً.

كان الأحرى بهؤلاء، وهم الذين جرَّبوا المذهَبَيْن (أو أكثر) من مدارس الإسلام الفقهية أن يكونوا في منطقة وازنة، تجمع لا تفرق، فمن غير المعقول أنهم لم يجدوا (أيّ شيء) جيدٍ في مذهبهم السابق والمتروك، وإنْ هم قالوا ذلك، فهم كاذبون، فالمعارف والاجتهادات في جميع المذاهب نسبيَّة. إذْ لا يمكن أن يتفوَّق البعض (في كل شيء) ويفشل البعض الآخر (في كل شيء). لذلك كان بعض المنصفين في التاريخ يقولون إنهم في الأصول على مذهب وفي الفروع على مذهب آخر كتوفيق منهم لواقعهم، كما في حالة الطرابلسي الحلبي.

ختام القول، إنه وإذا كانت هناك من مساعٍ حميدة لرأب صدع ما يجري في خلافات مذهبية، فإن أولى الأعمال باعتقادي هي إيقاف ألسن المتحوِّلين مذهبيّاً، الموظفة في الشتيمة فهم جزء من مشكلة التجييش والتحريض.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4818 - الأحد 15 نوفمبر 2015م الموافق 02 صفر 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 7:22 ص

      الاسد

      الحقيقه ان العلماء تركوا مهمة الدعوه للسفهاء

    • زائر 11 | 3:27 ص

      سمات العقلاء

      ((فمن غير المعقول أنهم لم يجدوا (أيّ شيء) جيدٍ في مذهبهم السابق والمتروك، وإنْ هم قالوا ذلك، فهم كاذبون، فالمعارف والاجتهادات في جميع المذاهب نسبيَّة. إذْ لا يمكن أن يتفوَّق البعض (في كل شيء) ويفشل البعض الآخر (في كل شيء))
      هذا كلام يوزن بميزان الذهب، لم اجد من عالج وقارب موضوع التحوّل المذهبي بمثل هذه الدقة والعناية و الشفافية .. بل و الإخلاص في الحكم والنظرة، وتلك لاشك سمات العقلاء والنبلاء.
      رعاك الله ، دائما ما تتحفنا بالفريد والجديد.
      دمت بخير

    • زائر 9 | 2:44 ص

      الديانات من الله و المذاهب من صنع البشر

      ولذلك لا يهم ما هو مذهبك ، الله يتقبل من العبد الصالح بعض النظر حتى عن دينه ، نسينا الأصل و تمسكنا بالفرع ، ماذا يعني أن تكون سني أو شيعي ، كاثلوكي أو برتستانتي ، المهم عند الله ان لا تشرك بالله، وحتى لو اشركت فلن يضر الله شيء، هذه حرية مثل المذهب ، يرتاح البعض ان يتعبد الله بهذه الطريقة و الآخر بتلك فما الصيرفة ، اعتقد ان المتحولون الصادقين مختلفين تماما عن المنافقين أو المتمصلحين أو الجبناء الذين يخافون من سطوة سلطة او جماعة كما نرى هذه الأيام.

    • زائر 8 | 2:41 ص

      حرية شخصية

      يفترض في عصرنا ان يكون الانسان حر في اختيارته بعض النظر توافقنا عليها ام لا. نحن المسلمين لإنزال ابعد من قبول الاخر. التعايش المشترك هو تقبل الاخر دون فرض ارانا او معتقداتنا لنا الحق في النقاش من دون التحريض على الاخر.

    • زائر 7 | 1:39 ص

      المدارس الدينية والحوزات العلمية تقوم بالترويج للمتحولين مذهبيا مع الأسف

      حتى المدارس الدينية والحوزات العلمية تقوم بالترويج للمتحولين مذهبيا، ما يعني أن كلا المذهبين السني والشيعي يقومان بتلك الدعاية

    • آمنت بالموت | 12:41 ص

      القضية أكبر مما نتصور ...!!

      فمن هاجر و هرب إلى الله سبحانه و تخفف في الدنيا ثبت الله قدمه في يوم يفر المرء من أخيه ..و هو يوم خروج قائم آل محمد

    • زائر 3 | 12:38 ص

      المقال تجنى كثيرا على المتحولين

      اسمح لي أخي العزيز وأتمنى ان تتقبل تعليقي بصدر رحب وتراجع مقالك.
      لقد تجنيت كثيرا على المتحولين وصادرت حقهم في حرية الراي والتفكير المكفول دينيا وفي القانون الدولي "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"
      أصدرت حكمك بسبب فضائيات لا تمثل الا التطرف، دون دراسة استقرائية أو مقابلة أصحاب الفكر والعلم والثقافة منهم وهم كثر، المتحولون بمئات الآلاف وليس من المعقول التجني عليهم دون الجلوس معهم ودراسة ظروفهم.
      أعتقد لو كلفت نفسك بإجراء دراسة ووضعت نتائجها أفضل من التخمين الغير منطقي.

    • زائر 10 زائر 3 | 2:49 ص

      رد على زائر 3

      الرجاء من الاخوة قراءة المقال جيدا قبل اصدار الاحكام ، المقال لا يتكلم عن نوايا المتحولين ولا عن كل المتحولين ، بل عن ( التوظيف الطائفي ) من قبل بعض القنوات الطائفية لقضية ( بعض ) المتحولين وليس ( كلهم ) ، فليس الكاتب بصدد ذم المتحولين بل هو ذكر كثيرا من الامثلة للذين تحولوا من مذهب الى آخر بشكل سليم ومنطقي ومدحهم ( راجعوا المقال )

    • زائر 2 | 11:49 م

      الله يهداك بس

      أسأل الله أن يهديك ، كيف تطلب وتنظر لمثل ذلك , الطائفية والعنصرية بكل أدواتها ، والتي يمثل فيها المتحولين أصغر الادوات وأبسط الاسلحة ، تقوم عليها ميزانيات أغنى الدول في العالم وتوظف فيها تريليونات البترودولار من أجل التصعيد المذهبي ، فنشوء بعض الانظمة الداعمة للارهاب والطائفية مرتبط أرتباط عضوي مع نهج الكراهية المذهبية ، فلا بقاء لها من دونها ، فكيف تطلب وتنصح بأن تطز عينها بيدها وتحفر قبرها بيدها بالتخلي عن الشريعية الوحيدة للبقاء ألا وهي الحشد والاصطفاف الطائفي والتمييز على الهوية

    • زائر 1 | 11:27 م

      الفرقة الناجية

      وعندما يتحولون يصبحون قد دخلوا في الفرقة الناجية!! كم فرقة ناجية عندنا

اقرأ ايضاً