العدد 4826 - الإثنين 23 نوفمبر 2015م الموافق 10 صفر 1437هـ

أعلام في التسامح والسلام: المطربة فيروز... أيقونة السلام

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

لاتزال الموسيقى اللغة المشتركة بين العديد من الشعوب تطربك ألحانها وتهزك أوتارها وتشغلك المواضيع التي تتناولها. فما بالك بالموسيقى الراقية التي أبدعتها أسماء شقّت لها في عالم الغناء والموسيقى طريقاً واضحة جعلت معها الفن رسالة سامية يسعى إلى نشرها وتعليمها، موضوعها قضية عادلة ووسيلتها أغنية راقية. نعم ذاك هو شأن الفنانة والمطربة العربية فيروز التي أطفأت شمعتها الثمانين لتوقد للعالم وعلى مدى الزمن مئات الألوف من الشموع التي تشعّ حبّاً وسلاماً وأملاً من خلال سجلّ أغانيها الحافل والزاخر بالدفاع عن السلام والأمن والتعايش بين مكوّنات الشعب اللبناني خصوصاً والعربي عموماً، وغير ذلك من القضايا العادلة التي دافعت عنها فيروز فضلاً عن تغنّيها بالحب قيمةً مُثلى تجمع القلوب على الخير وتزرع فيهم التسامح والإيثار. تلك هي فيروز عَلَم من أعلام التسامح والسلام.

نهاد حداد، وهو اسم فيروز الأصلي، ولدت العام 1935، كانت تحب الغناء منذ صغرها، تسمع صوت الراديو السحري قادماً من بعيد حاملاً أصوات أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب... استطاع الأستاذ «محمد فليفل» أن يقنع والد فيروز المحافظ بأن تغني أمام العامة الأغاني الوطنية فقط لتبدأ رحلة صوت عظيم شامخ، صوت المطربة فيروز التي وهبت نفسها لتنشر رسالة الحب والسلام من خلال اختياراتها الفنية التي تؤديها.

درست فيروز في المعهد الوطني للموسيقى ثمّ انضمت إلى فرقة الإذاعة الوطنية اللبنانية بعد دخولها المعهد بشهور قليلة. وكانت انطلاقتها الجدية العام 1952 عندما بدأت الغناء لعاصي الرحباني، وكانت الأغاني التي غنتها في ذلك الوقت تملأ كافة القنوات الإذاعية، وبدأت شهرتها في العالم العربي منذ ذلك الوقت. أحدثت فيروز مع الأخوين عاصي ومنصور الرحباني ثورة في الموسيقى العربية وذلك لتميزها بقصر المدة وقوة المعنى على عكس الأغاني العربية السائدة في ذلك الحين (مُطوّلات أم كلثوم وعبدالحليم...)، وجمعت فيروز في أغانيها بساطة التعبير إلى عمق الفكرة الموسيقية وتنوع المواضيع؛ إذْ غنّت للحب والأطفال، وللقضايا الوطنية العادلة وخصوصا للقدس لتمسكها بالقضية الفلسطينية، وللحزن والفرح والوطن والأمّ. وقد كان من حسن حظها وجود شعراء كبار في النصف الثاني من القرن الماضي حيث غنّت قصائد للعديد من عمالقة الشعر على غرار عبدالله الخورى، نزار قبانى، عمر أبو ريشة، إلياس أبو شبكة، إيليا أبو ماضى، ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران والشاعر الغنائي المصرى مرسى جميل عزيز، وسعيد عقل الذي أطلق عليها لقب «سفيرتنا إلى النجوم للدلالة على رقيّ صوتها وتميّزه. كما غنت فيروز أيضاً للشعراء القدامى مثل «ابن دريق البغدادي وابن جبير».

ويمثل الإنسان حجر الزاوية في أغاني فيروز؛ فصوتها الذي يمزج الحب بالعاطفة... بالصداقة... بالخير... بالسلام... بالأمان... بالكلمة الحلوة... بالشكر... بالموسيقى كان هدفه أن يوقظ الإنسان ولا يخدره، يدفع الإنسان إلى الأمام وإلى العلا ويحييه ويحيي العمل والنضال كما فى أغنية «الزراعيين اللى بيعطوا...» وأغنية «عائدون». وفي هذا الإطار التقت فيروز مع جبران في أعمال فنية بلغت القمة واتصف كل منهما بالتسامح كما بدا جلياً فى أعمال كل منهما حتى نالت فيروز جائزة دولية في «التسامح»، وقد قالت يوماً فى حديث صحافي: السؤال الذي لا أجد له إجابة هو: «ليش الشرّ موجود».

ومن القصائد الرائعة لجبران أدّت فيروز قصيدة (في ظلام الليل) والتي تتجلى فيها قيمة جبران كمصلح اجتماعيّ وواعظ، وقد أدّتها فيروز بروعة فاضت معها تلك المعانى الإنسانية الوطنية ونبذ الطائفية في لحن لزكي ناصيف بلغ القمة، وكأن جبران يرى ما يحدث للبنان الآن، لذا جاءت القصيدة تعبيراً عن موقف فيروز من الطائفية طوال سنوات الحرب، فهي مع ما يوحد ويجمع، لا مع من يفرق، ومما جاء في هذه الأغنية: (الويل لأمة كثرت فيها طوائفها وقلّ فيها الدين/ والويل لأمة تلبس مما لا تنسج وتشرب مما لا تعصر/ والويل لأمة مقسمة وكل ينادى أنا أمة).

كما غنت فيروز بلسان كل مسلم «غنّيْت مكّة» فنادت تخاطبهم: (يا قارئ القرآن صلِّ له/ أهلى هنا وطيّب البيدا/ لو رماله هتفت لمبدعها / شجوا... لكنت لشجوها عودا). وبلسان كل مسيحيّ غنّت «آلام السيد المسيح» ولا تسل عن أغنيتها زهرة المدائن فقد وحّدت فيها الجميع حين غنّت قائلة: (لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي/ لأجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائن/ يا قدس/ يا قدس يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي/ عيوننا إليك ترحل كل يوم.../ ترحل كل يوم/ تدور في أروقة المعابد/ تعانق الكنائس العتيقة/ وتمسح الحزن عن المساجد/ يا ليلة الإسراء يا درب من مروا إلى السماء/ عيوننا إليك ترحل كل يوم وإنني أصلي.../ الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان...).

إلى جانب هذه الأغاني، لفيروز قائمة طويلة من الأعمال الغنائية تجعلها نقطة الضوء وسط ما تعيشه المنطقة من نعرات وتقتيل لذلك ستعيش أغنيات فيروز ما قُدِّر للفن أن يعيش، لأنّ فيروز إنّما وهبت غناءها للحياة والحب والتسامح فلا غنت لرؤساء ولا انحازت لطائفة أو دين لذلك أحبها الجميع. إنها بصوتها والكلمات التي تنتقيها والألحان التي تؤديها توحّد ما يفرقه السياسيون وتبني ما يهدمه الإرهابيون. وإذا كان قدر هؤلاء أن يمروا إلى مزبلة التاريخ ولا يذكرهم إلا بسوء، فإن قدر فيروز أن تبقى أيقونة السلام.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 4826 - الإثنين 23 نوفمبر 2015م الموافق 10 صفر 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 11:32 م

      فيروز العطاء

      ويمثل الإنسان حجر الزاوية في أغاني فيروز؛ فصوتها الذي يمزج الحب بالعاطفة... بالصداقة... بالخير... بالسلام... بالأمان... بالكلمة الحلوة... بالشكر... بالموسيقى كان هدفه أن يوقظ الإنسان ولا يخدره، يدفع الإنسان إلى الأمام وإلى العلا ويحييه ويحيي العمل والنضال كما فى أغنية «الزراعيين اللى بيعطوا...»

    • زائر 2 | 1:34 م

      مقال رائع

      ذاك هو شأن الفنانة والمطربة العربية فيروز التي أطفأت شمعتها الثمانين لتوقد للعالم وعلى مدى الزمن مئات الألوف من الشموع التي تشعّ حبّاً وسلاماً وأملاً من خلال سجلّ أغانيها الحافل والزاخر بالدفاع عن السلام والأمن والتعايش بين مكوّنات الشعب

    • زائر 1 | 12:46 ص

      سلمت يداك

      فإن قدر فيروز أن تبقى أيقونة السلام

اقرأ ايضاً