العدد 483 - الخميس 01 يناير 2004م الموافق 08 ذي القعدة 1424هـ

كيف نست الذاكرة العربية المشاهد التراجيدية السابقة؟

عبدالله العباسي comments [at] alwasatnews.com

هل نحن نعيش نهاية المشهد التراجيدي السياسي العربي وأن على السامر أن ينفض وتفتح أبواب الخروج ليعود المتفرجون إلى منازلهم؟ أم مازلنا في بدايته؟

سألني أستاذ أكاديمي كان يجلس خلال الاحتفال الذي أقيم أخيرا بإحدى قاعات متحف البحرين تكريما للشاعر البحريني الكبير الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة، وكان واضحا أنه حزين على المشهد الذي أبرز صدام بذلك الشكل من البشاعة حيث انضم بذلك إلى الشارع العربي الذي أبرزت إحدى المحطات الفضائية العربية أن 96 في المئة اعتبروه إهانة للشعب العربي.

ونسي هذا الأكاديمي كما نسي العرب أن الذي سبب الإهانة لهذه الأمة هو صدام نفسه الذي كان وراء تحقيق رغبة الأميركان الذين كانوا يتمنون ويخططون لها منذ زمن وهي كيفية العودة لبسط السيادة الأميركية على المنطقة من دون أن تصطدم مع شعوبها التي ناضلت منذ الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي لإنهاء الوجود الاستعماري إلى أن قررت بريطانيا الخروج من دول الخليج، فكان العدوان العراقي على الكويت هدية غير متوقعة وفرصة سانحة لتتحول الولايات المتحدة وأوروبا إلى دول منقذة للكويت وبمنع نظام صدام من تحقيق أطماعه لابتلاع الخليج وخصوصا أن هذا النظام أثبت عجزه في أن يكون نظاما ديمقراطيا مقبولا في الداخل العراقي إذ لم يختلف على الإطلاق عن أي نظام شمولي عربي آخر بل كان انموذجا أردأ بكثير، وأدى الوضع النفسي الذي كان يعيشه صدام والقيادة العراقية بسبب التصفيات الجسدية لمئات من رفاقهم من جهة ولآلاف العناصر الوطنية من الأحزاب الأخرى ما جعلهم يعيشون حالة هلع غير طبيعية فصاروا أكثر دموية من غيرهم وخصوصا بعد توريط أنفسهم في الحرب المدمرة مع إيران، ثم بعدوانه الآثم على الكويت، وبذلك مهّد صدام الطريق ورصفه لعودة الاستعمار الأميركي والأوروبي لا بسهولة فحسب بل بدعوة دول الخليج لهما لنجدتهم مع إبداء الاستعداد لتقديم كل التسهيلات المطلوبة وحتى العون لهم، فرهنوا المنطقة كلها بنفطها وأرضها وشعبها للاستعمار الجديد. وبلغت شمولية الحكم العراقي واستبداده ودمويته ما جعل لأول مرة في تاريخ الخليج أن تلتقي ارادة عدد من شعوب المنطقة مع حكوماتها مثلما حدث بالنسبة إلى الشعبين الكويتي والسعودي، وخير من عبّر عن بشاعة نظامه هو صدام نفسه كما قال الكاتب اللبناني سليم نصار في الجواب عن السؤال المحير الذي طرحه عندما قال لماذا رفض صدام حسين استخدام سلاحه إن كان دفاعا عن شرفه وكرامته أو خوفا من سقوطه في الأسر أو دفاعا على الأقل عن صورة المقاومة التي زرعها في أذهان المقاتلين، عندما انطبق جوابه مع جواب دكتاتور آخر شبيه به هو فرانكو جلاد الشعب الاسباني عندما سمع جلبة وأصواتا خارج المستشفى الذي كان ينام فيه بعد أن كان بلغ من الشيخوخة مبلغها، فسأل طبيبه عن سبب الضجيج فأجابه أن الشعب الاسباني جاء لوداعه، فنظر إليه فرانكو بذهول وسأله، ولكن إلى أين سيسافر الشعب الإسباني؟

وتكرر المشهد نفسه عندما سأل أحد أعضاء مجلس الحكم الانتقالي صدام بعد اعتقاله عما فعله بشعبه طوال فترة حكمه فأجاب بكل هدوء واستغراب: وهل هناك من يتحدث باسم الشعب العراقي غيري؟ هكذا يلتقي جزّارو الشعوب في أفكارهم حتى وهم في آخر فصول حياتهم. وصدام واحد من القادة الذين جاءوا إلى الحكم منذ البداية بدعم أميركي وقدم خدمات عظيمة إلى الولايات المتحدة لم يستطع أن يقدمها غيره من القادة العرب، لكنه يختلف عنهم أنه كان عنصرا دمويا تخلص من كل رفاقه لا من منطلق الشجاعة بقدر ما كان من منطلق الجبن وحب الذات، فالإنسان الذي يشك في الآخرين إلى درجة مرضيّة يرى إذا لم يتغذّ بفلان فسيتعشى به فلان، فأدت حال الشك هذه إلى عدم الثقة في أقرب الناس له، وكان مستعدا للتخلص حتى من أولاده، لذلك ظهر وسط القادة العرب بشكل مغاير، ثم لأنه تمكن من بناء قوة عسكرية قوية تورط بها ولم يكن أمامه مخرج آخر إلا أن يشغل هذا الجيش الذي زاد عدده على المليون بالحرب. صحيح أن المحلل السياسي لا يستطيع أن يبرئ ساحة القيادة الدينية الإيرانية التي أعرب بعضهم عن نواياه التوسعية أو ما سموه بتصدير الثورة منذ بداياتها، من منطلق المثل الفارسي المعروف (تاتنور كرمست نان ببنديد) (إلصق الخبز في التنور مادام ساخنا)، وقد استخدمته مجلة «كيهان» الإيرانية خلال انقلاب مصدق على الشاه في الخمسينات، وسواء كانت تنوي إيران ذلك أم اختلق صدام ذلك العذر فإن صدام استغل تلك الفرصة ليتخلص من الجيش الكبير الذي بناه وترسانة أسلحته التي جمعها فقام بعمل مرفوض على المستويين الإقليمي الشعبي، ولا أقول الرسمي وعلى المستوى العراقي لكن سماسرة الولايات المتحدة استطاعوا أن يجروه إلى الدخول في الحرب فدخلها، وقام بإشغال الجيش لفترة 8 سنوات في حرب مدمرة حمى نفسه من الزوال.

ثم توجه بعد ذلك لشطر الكويت ليكون له شرف الدخول في ما أسماه بـ «أم المعارك» مستقيا هذا الاسم كما يبدو من الأغنية اللبنانية المعروفة «على أم المناديلي»!

صدام حسين على رغم اعتراف علي صالح السعدي بأنهم جاءوا على قطار أميركي لو لم يكن عميلا مباشرا فقد فعل ما لا يفعله العميل نفسه، ومع ذلك تم الاستغناء عن خدماته كعادة الاستخبارات الأميركية حين تستفيد من كثير من القيادات ثم تفضل استبدالهم.

إن مأساة هذه الأمة أنها تعيش من دون ذاكرة، فالذين يتباكون على المشهد الذي رأوا فيه الزعيم العطوف على شعبه والحامي للقومية العربية بذلك الذقن الأشعث الأغبر بعد أن كان حليقا أنيقا نسوا أنه كان وراء إهانة هذه الأمة والاستهانة بكرامتها عندما اعتدى على الكويت من دون شفقة، وعندما ذل جنده بعد دخول الحلفاء لها في أعقاب أسر جنوده، أعتقد أن هؤلاء الذين تأثروا بمنظر صدام وانجرحت كرامتهم لم تكن لهم كرامة وهم أمام مشهد مريع نقلته كل الفضائيات العربية والعالمية إذ انحنى أحد الجنود العراقيين الأسرى على جندي أميركي وقبّله رافعا يده وهو يقول: منذ خمسة أيام لم نذق طعاما.

بين صدام وداسيلفا

المشكلة الكبرى تكمن في أن هذا القائد المريض بالسوداوية والذي أراد أن يعوض عن كونه خرج من بين طبقة فقيرة وكان عمه الذي أشرف على تربيته شديدا معه أراد أن ينتقم من شعب بأكمله إن لم نقل من أمة بأكملها، عكس الرئيس البرازيلي إيناسيولولا داسيلفا الجديد الذي خرج من بيئة فقيرة مثله وهزم الولايات المتحدة الأميركية ومنافسه المدعوم من قبلها، هذا الرئيس الذي جاء خاليا من عُقد صدام ليغير من وجه البرازيل ذات الـ 180 مليون نسمة وينقذهم من ذل الفقر والبؤس والمجاعة، كان يعتز بطبقته مثلما اعتز من سبق صدام في العراق الرئيس عبدالكريم قاسم. ويحكى عن اعتزاز الرئيس البرازيلي بطبقته الفقيرة أن أحد أصدقائه أرسل إليه هدية طريفة هي عبارة عن حذاء جديد مع رسالة يذكّره فيها بأنه كان ماسح أحذية في صغره كي لا ينسى ماضيه وهو في قصر الرئاسة.

وقد نشرت مجلة «تايم» صورته وهو يحمل الحذاء المرسل إليه من صديقه بكل فخر واعتزاز ليؤكد أنه بدأ حياته المهمشة والبائسة ماسح أحذية وأجيرا متواضعا وكتب ردا على رسالة ذلك الصديق يقول له فيها «ثق أنني سأزور البلدة التي شهدت طفولتنا القديمة، وأن أقصى ما أطمح إلى تحقيقه في كرسي الرئاسة هو ألا أخجل أمام الشعب الذي اختارني لقيادته أن أكشف له أنني كنت أشتغل بهذه المهنة وأنا خارج الحكم».

لقد تأثر الشعب العربي كثيرا بمشهد اعتقال صدام على تلك الهيئة واعتبر كثيرون ذلك إهانة للكرامة العربية متناسين كل المشاهد التراجيدية التي صنعها صدام نفسه طوال فترة حكمه الاستبدادي، ونست الذاكرة العربية القبور الجماعية، ونست الذاكرة العربية العدوان الآثم على الكويت الذي كان سيخلِّف مليون لاجئ عربي جديد، ونست الذاكرة العربية قبلة الجندي العراقي لحذاء الجندي الأميركي، ونست الذاكرة العربية خيرة العلماء والمفكرين الذين غيّبهم صدام، ونست الذاكرة العربية أكثر من أربعة ملايين عراقي وهم من خيرة المثقفين العراقيين يتسكعون في شوارع العالم لا يلوون على شيء، ولم يختزن شريط الذاكرة العربية إلا المشهد الأخير إذ اعتبر اعتقال صدام بذلك الشكل المزري إهانة للأمة. ترى لماذا صمت المثقفون عن كل جرائم صدام طوال حكمه ولم يقل أحد منهم إن ما تفعله جريمة أيها الرفيق وإهانة للأمة كلها؟ هذا لأن الذاكرة العربية مريضة فعلا وتحتاج إلى علاج.

شتان بين إنسان يخجل من ماضيه ويتمرد عليه مثل صدام وآخر يعتز به ويتفاخر مثل داسيلفا

العدد 483 - الخميس 01 يناير 2004م الموافق 08 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً