العدد 4846 - الأحد 13 ديسمبر 2015م الموافق 02 ربيع الاول 1437هـ

حين يمتلك المكان روحاً

سوسن دهنيم Sawsan.Dahneem [at] alwasatnews.com

الأماكن التي تسكننا كثيرة، خصوصاً تلك المتعلقة بطفولتنا، أو ذاكرتنا التي تؤثثها لحظات مهمة في حياتنا؛ فالمكان الأول الذي شهد دهشتنا الأولى حين نجحنا بإنجاز أمر ما، أو ذلك المكان الذي احتضننا حين تعرفنا على شخص أحببناه فلازمنا بقية حياتنا، أو المكان الذي عشنا به أولى سنوات أعمارنا وشهد أجسادنا وهي تكبر وعقولنا وهي تتفتح. هذه الأمكان لا تغادرنا حتى وإن غادرناها، تظل تغزونا بين فترة وأخرى، بدليل أننا ما إن نزرها، ولو صدفة، في وقت لاحق من حياتنا، حتى نشعر بذات الشعور الأول الذي عشناه على أرضها، ونسمع ذات الأصوات التي رافقتنا، وقد نشم بها ذات الروائح الأولى التي لم تعد موجودة بها.

يحضرني في هذا السياق ما كتبه الفلسطيني مريد البرغوثي في رائعته: «رأيت رام الله» حين يصف شعوره عندما كان يعبر الجسر الخشبي باتجاه الأرض المحتلة: «هنا وعلى هذه العوارض الخشبية المحرّمة، أخطو وأثرثر عمري كله لنفسي، أثرثر عمري، بلا صوت، وبلا توقف.

أوقات من الصور المتحركة تظهر وتختفي، بلا نسق مفهوم، لقطات لحياة شعثاء، ذاكرة ترتطم بجهاتها كالمكوك وأخرى تستعاد، تستعصي على المونتاج الذي يمنحها شكلها النهائي، شكلها هو فوضاها. طفولة غابرة، وجوه أحباب وأعداء، ها أنا الشخص القادم من قارات الآخرين ولغاتهم وحدودهم، الشخص ذو النظارات والحقيبة الصغيرة، وهذه هي عوارض الجسر. هذه هي خطواتي عليها. ها أنا أسير نحو أرض القصيدة. زائراً؟ عائداً؟ لاجئاً؟ مواطناً؟ ضيفاً؟ لا أدري».

هذا التشتت، هذه المشاعر بين الماضي والحاضر، هذه النقائض التي تجتمع في وقت واحد ومكان واحد، تأتي أحياناً حين ندخل مكاناً له ذاكرة بنكهة خاصة، وغالباً يكون مرتبطاً بالجانب المضيء من حياتنا، مرتبطاً بسعادة، أو دهشة، أو لقاء، أو نجاح، أو إنجاز، إلا حين يكون الجانب المظلم عميق الجرح عشناه في مكان بعينه.

بعض الأماكن تكون بمثابة قلب نابض، أو حضن دافئ، ما إن تدخلها حتى تشعر بحميمية دافئة تلخص لك حياة كاملة، بعضها يكون صاخباً كحفلة، أو ناعماً كابتسامة طفلة، أو بريئاً كضحكة مشاكس.

نعم تتخذ الأماكن صفات ساكنيها، وصفات الأحداث التي وقعت بداخلها، حين نرهف حواسنا ونستشعر لذة وجودنا فيها بعد سنوات من الذاكرة المنطفئة التي توقدها رائحة مكان ما أو شكله أو حتى خياله عند المرور بقربه.

هو ما يجعلنا نبتسم أو نطلق تنهيدة حسرة حين نشاهد صوراً لبيوت قديمة أو مزارع لم نعد نراها، أو حلقات تدريس القرآن في «المعلم»، أو مقاطع من أفلام الرسوم المتحركة التي ارتبطت بطفولتنا فاطلقنا عليها اسم الزمن الجميل أو زمن الطيبين، فيما يتعلق بذاكرتنا الجمعية، وهو ذاته ما يجعلنا نبتسم حين نتذكر اللقاء الأول بمن نحب، ونشاهد صور المولود الأول لنا أو صورة تخرجنا من أي مرحلة دراسية.

من المهم الاستمتاع بهذه اللحظات واستثمارها واستحضارها لتكون لنا طوق نجاة حين تغرقنا - أو تحاول - لحظات الضعف والحزن والفقد؛ إذ ستكون حينها خير دواء وخير منقذ.

إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"

العدد 4846 - الأحد 13 ديسمبر 2015م الموافق 02 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:59 ص

      مقال جميل

      حتى المكان ينطق بما جرى لنا فيه من احداث سابقه وكان الحدث حدث للتو وخصوصا للاحداث التي تركت بصماتها في حياتنا والتي لايمكن نسيانها هناك شوارع من غير شعور تحب ان تسير فيها وتعطيك شورا بالراحه والطمانينه وهناك شوارع تحاول ان تتجنبها والسير فيها فعندما تسير فيها يصيبك شعور غامض بالانقباض

اقرأ ايضاً