العدد 4877 - الأربعاء 13 يناير 2016م الموافق 03 ربيع الثاني 1437هـ

العصبيات وفيروس العنف وحروب الهوية

يوسف مكي (كاتب بحريني) comments [at] alwasatnews.com

كاتب وباحث بحريني

في كتابه «الإنسان المهدور دراسة تحليليّة نفسيّة اجتماعيّة» يفرد مؤلفه عالم النفس اللبناني مصطفى حجازي فصلاً عن العنف بعنوان: «العصبيَّات والهدر» يستعرض فيه آليات عمل العصبية / العصبيات بأنواعها وعلاقة ذلك بالعنف والهدر.

يقسم العصبيات إلى: عصبية الهدر الداخلي، وعصبية الهدر الخارجي. ويقصد بالأولى عندما توجه تلك العصبية عنفها وعدوانها إلى الداخل، أي داخل العصبية نفسها، وكمثال على ذلك، الصراع والعنف المتبادل بين مكونات واجنحة العصبية. مثل الصراع بين أجنحة عصبية طائفية أو قبلية أو سياسية. أما عصبية الهدر الخارجي فهي العصبية نفسها وقد وجهت عنفها وعدوانها نحو الخارج آو الآخر. وهذا ما يحدث في منطقتنا هذه الأيام.

ومن خلال تحليله للعصبيات الاجتماعية والهدر الخارجي يصنف حجازي هذا الهدر ضمن ثلاثة أشكال. فهناك العصبيات وهدر الوطن، ومثالها عندما يصبح الوطن مجرد عصبية من العصبيات المتغلبة على غيرها من العصبيات، وقد استأثرت بكل مقدرات الوطن. والشكل الثاني عصبية هدر المؤسسات والطاقات المنتجة ومثاله «التسابق على اقتسام المغانم بين العصبيات من المؤسسات العامة»، ومؤسسات المجتمع المدني التي من المفترض أنها تقوم بتقوية اللحمة الوطنية فيما بين المواطنين، إلا أنها بفعل هذا الهدر العصبوي «تتحول إلى مراكز نفوذ لهذه العصبيات ونصبح بعيدين عن المواطنة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات ما يؤدي إلى جمود المؤسسة العامة».

وفيما يتعلق بالشكل الثالث من الهدر الخارجي، وهو الأخطر، فيتجلى بأبرز صوره فيما يطلق عليه حجازي بـ «فيروس العنف وحروب الهوية» وهو البعد الذي يجتاح المنطقة العربية هذه الأيام. فيا ترى ما هي العلاقة بين هذا العنف والعصبية؟.

بحسب حجازي أن العنف يتجلى في بنية العصبية ذاتها. والعنف موجود في كل الأحوال في حالة السلم وفي حالة الصراع. لكنه في السلم يظل نائما أو كامنا، وسرعان ما يكشف عن نفسه في حالة الصراع المكشوف، ويتجلى في «حروب الهوية والتصفيات العرقية والطائفية والاثنية أو حتى السياسية».

وفي تحليله لفيروس العنف المرتبط بالعصبية يشير إلى أن العصبية من حيث بنيتها تحتوي دائمًا شحنة عدوانية قابلة إلى أنْ تتحول إلى صراعات دامية وتصفيات مع الخارج بدلاً من الداخل. توجيه العنف إلى الآخر المختلف.

وفي هذا الشأن تصاب العصبية بما يعرف بالانشطار الانفعالي بفعل ظروف ذاتية تخص العصبية، وظروف موضوعية تاريخية، وعندها تصبح العصبية منشطرة بين طرفي نقيض. الأول يتمثل في حصر الإيجابيات والمحاسن في العصبية نفسها، ويتمثل في الطرف الثاني الآخر كل السلبيات والشذوذ والانحراف. بحيث يصبح هذا الآخر شرًّا مطلقًا كما أن العصبية خير مطلق.

هذا التناقض في النظرة العصبوية يؤدي حسب علم النفس الاجتماعي إلى النرجسية الجمعية، وبالتالي إلى تركيز كل القيم السامية والإنسانية والأخلاقية والنبيلة في العصبية التي ينتمي إليها هذا الفرد أو تلك الجماعة، وفي الجانب الآخر تركيز السلبيات وغياب الإنسانية والأخلاق في العصبيات الأخرى. ووفقا لهذا المنطق القائم على العصبية لابد من التضحية بكل ما لا ينتمي إلى عصبية المرء/ الجماعة؛ لأنه لا يتطابق وعصبيته.

هنا يصبح التخلص من الآخر بمثابة الواجب في العقل العصبوي كما يصبح عملا نبيلا وفي بعض الأحيان مقدسًا يثاب من أجله بحسب آليات عمل العصبية وتفكيرها الإيديولوجي.

هذا بالضبط ما يحدث للعصبيات من كل لون وصنف، التي تنظر إلى نفسها أنها الفئة الوحيدة الناجية والمختارة، والآخرون خارجون عن القانون وعن الصراط المستقيم، ومن ثم على العصبية الناجية أن تقوم بتطهير الأرض من المنحرفين المختلفين بأية وسيلة بما فيها القتل.

ووفقا لتحليل حجازي فإن ما يحدث للعصبية هو القيام بفعل أسطوري مزدوج. يتمثل الأول في تعظيم العصبية ورأسمالها الرمزي من جهة، وتحطيم وإلغاء العصبيات الأخرى من جهة أخرى. ومن خلال هذه الأسطر، يصبح القتل / قتل الآخر وهدر دمه أمراً ممكنًا ودون شعور بأي ذنب أو تأنيب ضمير. وفي هذه الحالة «يصبح القتل ليس مبررا فقط، بل هو يرقى إلى مستوى الواجب والرسالة النبيلة: القضاء على الضلال والفساد واستعادة الحق والفردوس المفقود». وهذا ما يحدث بالضبط مما نشهده من قتل واستباحة للآخر المختلف من قبل العصبيات الدينية والطائفية والاثنية والسياسية على اختلاف مسمياتها.

ولأن العصبية تصل في اعتدادها بأصالتها وبذاتها حدَّ الهوس والنرجسية والأنانية، فإنها لا ترى في الآخر غير النقيض المطلق والضال والمنحرف، وبالتالي فإن أي نوع من العلاقة معه لابد أن تكون من خلال العنف والعدوان والتصفية والاستباحة. وفي هذه الحالة تتحرر نزوة العنف والعدوان «من كل الضوابط الإنسانية التي تقيدها عادة» تجاه التعامل مع الآخر. بل يصل الأمر - وهذا ما نشهده - إلى أبعد من ذلك، إلى حد أقصى يتمثل في قتل الآخر والتشفي فيه والتمثيل به من خلال التنكيل به وتقطيع جسده. وكل ذلك بهدف تفريغ العنف المحتقن والعدوان المنفلت من عقاله تجاه الضحية /الآخر.

نخلص إلى القول إن العصبية وبغض النظر عن المسميات (حيث الآلية واحدة) بازدواجيتها ومفهومها المتناقض بين الذات والآخر تؤسس لهدر إنسانية الإنسان، طالما أن الآخر ليس إنساناً وليس شيئاً ذا بال يستحق الاهتمام بمفهوم العصبية، بل شيء يجب التخلص منه وتطهير الأرض منه.

وبذلك فإن ما نشهده من عنف منفلت في المنطقة العربية من كل العصبيات لا يخرج من حيث الآليات عن هذا القانون. القانون المسير لآليات الصراع العصبوي، أو صراع العصبيات، سواء على صعيد هدر الداخل، مثل صراع الأجنحة في العصبية نفسها، أو هدر الخارج من خلال صراع العصبية ضد العصبيات الأخرى. أجل هذا هو منطق العصبيات وفيروس العنف الذي يسرح ويمرح في بلاد العرب منذ سنوات دون ضابط أو رادع. فهل يعي العرب ما آلت إليه أوضاعهم بفعل عصبياتهم؟ ربما.

تبقى الإشارة إلى أن كتاب حجازي على رغم مرور عشر سنوات على صدوره فإنه يحتفظ بقيمته التحليلية لدورة العنف والعصبيات التي تشهدها الساحة العربية من الماء إلى الماء.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"

العدد 4877 - الأربعاء 13 يناير 2016م الموافق 03 ربيع الثاني 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً