العدد 4968 - الأربعاء 13 أبريل 2016م الموافق 06 رجب 1437هـ

4 عقود من حياة سيدجواد الوداعي قضاها في قرية باربار (2)

يوسف مكي (كاتب بحريني) comments [at] alwasatnews.com

كاتب وباحث بحريني

في هذه الأثناء قام السيد بملء الفراغ الحاصل في القرية والقيام بمهامه الدينية وخاصة فيما يتعلق بإمامة الصلاة وخاصة الجمعة والجماعة وصلاة العيدين، وكذلك المناسبات الدينية والاجتماعية الأخرى. واستطاع السيد أن يوّحد أهالي القرية فيما يتعلق بأمورهم الدينية والشرعية والاجتماعية، ولم يجد السيد صعوبة في ذلك وخاصة أن باربار إخبارية الهوى بوجه عام، وأصولية في بعضها. لذلك التف حوله أهالي القرية. ومن هنا بدأ نجمه يتألق على مستوى باربار وعلى مستوى البحرين.

أما المشكلة الثانية: فهي التباينات والحساسيات الاجتماعية فيما بين أهالي القرية التي تصل إلى التوتر في كثير من الأحيان وحتى الصدامات والمناوشات في أحيان أخرى وذلك بسبب الاختلافات المرتبطة بالمآتم والحسينيات والتحزبات الضيقة، وتزداد هذه التوترات والخصومات في فترات التحاريم والمواكب العزائية، وكانت باربار في منتصف السبعينات تعيش حالة قلق اجتماعي. وقد لا حظ السيد ذلك فما كان منه إلا أن أحس بخطورة الموقف وقام ببذل جهد لتهدئة الأوضاع والنفوس وتلطيف الأجواء الأهلية، وفي سبيل ذلك اعتمد أسلوب العلاقات المتوازنة فيما بين الأطراف في مجتمع القرية. وفيما بين الأطراف الفاعلة في القرية خصوصاً.

وقد استمرت جهوده في سبيل إعادة اللحمة في القرية طيلة السنوات اللاحقة من استقراره في القرية، حتى تكللت جهوده بالتفاهم والتقارب فيما بين المآتم، ووضع برنامج مشترك فيما يبنها لتنظيم وتوزيع الفعاليات الدينية والحسينية وبمشاركة الجميع. وبالتالي وبفضل حكمة السيد وحنكته استطاع السيد القضاء على التوترات الأهلية أو على الأقل إدارتها بأقل الخسائر. كما استطاع - وهذا هو الأهم - أن يمد الجسور العائلية بينه وبين الأهالي عبر المصاهرات والصداقات بحيث تصبح باربار مع مرور الوقت وكأنها عائلة السيد الكبيرة ، فهو منها وهي منه. ويصبح قريبا من كل عائلة وأسرة في باربار وله فيها نصيب بالمصاهرة أو بالصداقة.

أما المشكلة الثالثة: وهي مرتبطة بالسابقة فتتمثل في القيمومة (القيم) على مسجد الشيخ علي بن حماد وهو أهم مسجد في باربار وأقدمها (أسس في حدود 1500 ميلادي) وكان هذا المسجد على امتداد عقود مثار خلاف فيما بين الأهالي، ومن له الحق في قيمومته أو المسئولية عنه وخاصة فيما يتعلق بالنذور وتنظيم أموره واستعمالاته الدينية والاجتماعية.

ولحل هذه المشكلة استطاع السيد وبهدوء وضمن فترة زمنية أن ينهي هذه التوترات ويضع يده عليه، ويتحمل مسئوليات المسجد ويخلصه من الرغبة في الاستئثار به من قبل هذا الطرف أو ذاك، وبذلك استطاع السيد أن يخلص المسجد من الاستقطابات من جهة ويخلص أهالي القرية من موضوع اختلافهم، وأن يضع حدّاً لخلافاتهم حول المسجد فهو لهم لكنهم ليسوا مسئولين عنه. إنما من مسئولياته.

هذه في الحقيقة انجازات مهمة على صعيد القرية تحسب للسيد، أما أهم الانجازات في تقديري فهو تأسيسه نظام الحوزات في القرية فهو المؤسس الأول لها في القرية بدون منازع. وبهذه الانجازات أخذت فكرتي تتوسع حول شخصية السيد، حتى شاءت الصدف أن التقي به – مع آخرين – مباشرة وجها لوجه وذلك في العام 1988 في مجلس المرحوم سيد مجيد سيد محمد الماجد، وكان اللقاء بالسيد بمعية نجله السيد محمد حول موضوع دورة رياضية اجتماعية كان نادي باربار ينوي تنظيمها، وكان اللقاء بهدف ثني النادي عن إقامتها بسبب تحفظ بعض الأهالي. والسيد له رأي في ذلك.

وقد تناقشنا مع السيد في الموضوع ولم نتوصل إلى حل ومع أن النقاش كان حامياً، بمعنى أن كل طرف يأتي بحجته إزاء الآخر، إلا أن السيد كان هادئا، وكان النقاش فكريا متحضرا، حيث حاولنا أنا وزملائي في وفد النادي أن نوّصل وجهة نظرنا دون فرض أو تجريح أو تحد لأحد، ومع ذلك فإننا لم نتمكن من إيصالها في التحليل الأخير، وفي نفس الوقت ومن خلال النقاش حاول السيد إيصال وجهة نظره حول الموضوع لكن دون جدوى.

وانتهى اللقاء دون فائدة آنية حيث تمسك كل طرف بموقفه، لكننا في النادي وكبادرة حسن نية واحتراما للسيد وللأهالي قمنا بنقل الدورة الرياضية إلى مكان خارج القرية وانتهى الأمر عند هذا الحد.

لكن هذا اللقاء العاصف والمباشر أكد لي مجموعة من الانطباعات السابقة عن السيد وولد لدي انطباعات جديدة، وكلها انطباعات ايجابية. وهي كالتالي:

- أن السيد يمتاز بهدوء غير عادي ولديه حسن الإصغاء وأريحية في الاستماع للآخر حتى لو كان مختلفا معه، لكن في نفس الوقت قلما يحيد عن موقفه أو رأيه.

- يمتاز السيد بقوة الحجة ويمتلك ناصية الحديث وقدرة على التركيز فيما يقال وما لا يقال.

- يمتاز بسمات أخلاقية نادرة من قبيل عدم اتخاذه مواقف معادية أو شخصية حتى من الأشخاص الذين يسيئون إليه، ويتجنب الدخول في مهاترات أو سفاسف الأمور.

- يمتاز لسانه بالعفة والابتعاد عن التجريح واختيار الألفاظ المناسبة للمقام كما يمتاز بروحه الإرشادية / الوعظية المحببة دون أن يشعرك بأنه يفرض عليك أمرا ما. حيث لديه أسلوب الوعظ والإرشاد هو الأحسن. أو الموعظة الحسنة.

بعد لقائي هذا، لم التقه إلا لماما، وفي المناسبات الدينية والاجتماعية وخاصة في مجالس العزاء، حيث أبادره بالسلام والتحية، وقد انتحى جانبا في المكان، وهو في كامل هيبته ووقاره فيرد عليّ التحية بهدوء وانظر في عينيه اللامعتين ووجهه النيّر بلحيته البيضاء، وكأنه يريد أن يقول لي شيئا لكن المقام غير مناسب، وأنا كان لدي ما أقوله له، ولم يكن المقام مناسبا. واستمرت علاقتي به عند هذا المستوى مع احترام وتقدير من قبلي لشخصه وصفاته المحببة إلى النفس. حتى ولو لم نتفق في الآراء.

وهنا لابد من التأكيد أنه طوال حياته في القرية لم يسيء إلى أحد من أهالي القرية مع أن بعضهم أساء إليه، وهذه من مناقبه التي يتعالى بها عن الصغائر والمهاترات. ولا يقابل الإساءة بإساءة مثلها. كان ميالا دائما إلى المسالمة والتسامح والهدوء.

ولكن دور السيد لا يتوقف عند هذا الحد، فهو إلى جانب دوره الديني، كان دائم التواصل من الناحية الاجتماعية بأهالي القرية وأسرها، حيث كان يشاركهم أفراحهم وأتراحهم ولا يميز بين غنيهم وفقيرهم، فكل أهالي القرية بالنسبة إليه سواء. أو بمثابة عائلته الكبيرة.

واستطيع القول انه استمر على هذه الأخلاق حتى أيامه الاخيرة، فقد كنت أراه يتجشم حضور المناسبات الأهلية على رغم وهنه ومرضه وتدهور صحته، لكن الأمر بالنسبة إليه مبدأ وعقيدة.

وهنا لابد من الإشارة إلى دوره في مساندة احتياجات أهل القرية، وتحسس مشاكلهم واحتياجاتهم. فعلى سبيل المثال وبموازاة جهده الشخصي في العمل الخيري كان له دور داعم ومساند في تأسيس صندوق باربار الخيري (جمعية باربار الخيرية 1993). كما كان له دور في مساندة المطالب في إقامة مركز صحي في القرية.

أما على الصعيد العلمي فيعتبر السيد من بين كبار رجال الدين في البحرين خلال العقود الستة الأخيرة، ويحظى بقبول واسع من قبل الجمهور فيما يتعلق بتعليماته وفتاواه.

هذا وعلى رغم انتسابه إلى المدرسة الإخبارية في الفقه وتحقيقه لبعض مؤلفات الشيخ حسين العصفور، فهو في تقديري كما أرى يأخذ بالمدرستين. ويمكن اعتباره في منزلة بين المنزلتين، يأخذ بأحسن ما في المدرستين الإخبارية من جهة والأصولية من جهة أخرى.. أو يحاول التوفيق بينهما.

وفيما يتعلق بالشأن العام والسياسي خاصة أظن أن السيد من بين رجال الدين الذين يحاولون النأي بالشأن الديني عن الشأن السياسي، لكنه مع ذلك إذا ما تطلب الوضع أن يتخذ موقفا تاريخيا فإنه لا يتردد في إعلان ذلك الموقف بشكل فردي أو في إطار المجموع.

أخيرا يمكن القول إن السيد استطاع بحنكته وموقعه الديني أن يساهم في نهضة باربار الحديثة وذلك من خلال دوره وتفاعله الإيجابي مع القرية، وكذلك تولد شعور لدى الأهالي بأن السيد لهم جميعا وليس لفئة دون أخرى. إنه الأب الروحي للقرية.

وقد استطاع بشخصيته المتوازنة اجتماعيا أن يشمل برعايته الدينية والاجتماعية جميع العوائل والأسر وأن يكون مظلة للجميع ودون تمييز.

لقد عاش السيد نحو 93 عاما قضى منها أكثر من أربعة عقود في باربار، وهي حقبة زمنية تمثل أهم مراحل حياته وأكثرها خصبا وعطاء، وهي كذلك مرحلة حافلة بالأحداث والتاريخ والتقلبات، وكان رحمه الله في المركز من كل ذلك.

نعم ستظل قرية باربار تفتقده دائما، وفي نفس الوقت تتذكره. تتذكر مآثره وتتمسك بمنجزاته وروحه التوافقية، وتترحم عليه، والحديث يطول عن السيد بطبيعة الحال، لذا نتوقف عند هذا الحد. وقد أردنا بذلك أن نقول كلمة بحقه، وهي كلمة لا تغني في كل الأحوال عن كتابة سيرته ومسيرته. وختاما نحن بدورنا نقول رحم الله السيد جواد وأسكنه فسيح جناته.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"

العدد 4968 - الأربعاء 13 أبريل 2016م الموافق 06 رجب 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:20 ص

      الله يرحمه

      الله يرحمك ياسيدنا ويحشرك مع محمدٍ وآل محمد

    • زائر 1 | 2:33 ص

      راس رماني

      الف رحمة ونور تنزل عليك ياسيدنا وابونا الوداعي
      وشكرا للكاتب ولصحيفة الوسط

اقرأ ايضاً