العدد 4993 - الأحد 08 مايو 2016م الموافق 01 شعبان 1437هـ

«صادق خان» الفقير والسيّد والحاكم

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يعيش في لندن 8 ملايين و600 ألف إنسان. من بين تلك الأنفس يعيش مليون مسلم (أي أنهم يُشكلون 11.6 في المئة من تعداد سكان العاصمة فقط). شاءت الأقدار أن من بين ذلك المليون مسلم الذي ينتمي للملايين الثمانية والنصف يُصبح شخص واحد منهم عمدةً لهذه المدينة، التي كانت ومازالت تُنعَت بمدينة الضباب. فقد أصبح المحامي البريطاني والباكستاني الأصل صادق خان عمدةً لمدينة لندن، ما جعل هذه التجربة الأولى في كل عواصم الاتحاد الأوروبي الثمانية والعشرين.

دعونا نعود بالذاكرة إلى ست سنوات خَلَت. كان حينها وزير الخارجية الباكستاني شاه محمود قريشي يقول بأن على بريطانيا «ضمان وصيانة حقوق المواطنين الباكستانيين المقيمين في المملكة المتحدة»، بعد توارد الأنباء تباعاً عن سوء المعاملة التي يتعرّض لها الباكستانيون هناك. ولكن ومن محاسن القدر أن نرى اليوم قدرة إحدى العائلات من تلك الجالية، على استثمار غربتها وحياتها الصعبة لتدفع بأحد أبنائها كي يكون عمدةً لعاصمة بيضة قبّان القارة الأوروبية.

الحقيقة أن في ذلك الانتخاب لصادق خان أشياء لافتة. أول تلك الأشياء أن الرجل هَزَمَ بريطانياً من أقحاح البلد وهو زاك غولد سميث بتسع نقاط. وثانيها أنه هَزَم كاريزما المال في بريطانيا كون سميث أحد أباطرة المال في بلاده. وثالثها أن فوز خان اعتُبِرَ تعزيزاً لحزب العمال البريطاني وزعيمه جيريمي كوربين، بعد نكسته الانتخابية في برلمان اسكتلندا. (جاء حزب العمال بعد الحزب الوطني الأسكتلندي وحزب المحافظين)، هذا فضلاً عن أن الرجل على غير ديانة البلد الرسمية (المسيحية البروتستانتية).

منصب العمدة في لندن ليس كما نعتقد وفقاً لما تكرّس لدينا في الشرق العربي ونحن صغار. فعمدة لندن الجديد (والحال عند الذين قبله كذلك) سيكون بحوزته 14 مليار جنيه استرليني من الموازنة التي يُدير بها الأمن والشرطة وشبكة المواصلات والمشاريع الاقتصادية في العاصمة لندن. وهو المنصب الذي يلي في أهميته منصب رئيس الوزراء في المملكة المتحدة، ويُعادله في المرتب: 143 ألفاً و911 جنيهاً استرلينياً.

قبل أسبوعين كتبتُ في هذه المساحة عن جذور الدّين الإسلامي في بريطانيا، وأشَرت إلى أنه متأصّلٌ منذ قرون. وضربتُ أمثلة على ويليام هنري كويليام، وبيكثال ورولاند ألانسون وخالد شيلدريك. والقائمة تجود بمئات الآلاف من أمثال هؤلاء. وهم كما قلت، ليسوا من المهاجرين الهنود أو الباكستانيين بل من أقحاح انجلترا، لكن بالتأكيد لعب المهاجرون دوراً رئيساً في قوة حضور الإسلام كدين في بريطانيا ومن بينهم الجالية الباكستانية حيث يوجد اليوم 800 ألف باكستاني هناك.

الباكستانيون اليوم هم أكبر جالية مسلمة تعيش في بريطانيا، بدأت في التشكل عبر أثير هجرة الستينيات النشطة. لكنهم أيضاً الأقل حظاً في يسار العيش على رغم أن النسبة الغالبة فيهم وُلِدَت في بريطانيا. ولأنهم بارعون في صناعة الألبسة فقد تلقفتهم بريطانيا لتسيير مصانعها في الشمال. لكن تراجع هذه الصناعة جعلهم بلا مهنة، وبالتالي على أبواب الفقر.

لقد انبرى كثير منهم إلى أعمال أخرى كي يُعيلوا أبناءهم، ومن بينهم والد صادق خان الذي اشتغل في سياقة الحافلات. لقد عانى الجيل الأول من الباكستانيين من صراع تحقيق حلم الحياة الجديدة أو الفشل، بينما عانى الجيل الثاني من صراع الهوية والشعور بالعدالة في مجتمع مختلف في الديانة والأعراف وقيم العمل. لذلك، كان أول تصريح لصادق خان بعد إعلان فوزه هو: «أنا فخورٌ بأن لندن اختارت اليوم الأمل على الخوف»، في تعبير واضح عن الشعور المترسّخ لديهم بالخوف والضياع.

وربما يُعزّز فوز صادق خان الأمل فعلاً لدى الباكستانيين (وغيرهم حتى) من أن الظروف ليست بالصورة السلبية التي ترسّخت لديهم، وأن الأسرة الفقيرة التي سكنت في منزل متواضع منحه إياها المجلس المحلي عند قدومها، يمكن أن تكون في موقع المسئولية والقرار الذي من خلاله قد تمنح آخرين ذات المنفعة. إنه شيء كبير بالنسبة لهم «قد» يساوي شعور السود في الولايات المتحدة الأميركية (بل والعالم) بفوز باراك أوباما سنة 2009 كرئيس لأقوى بلدٍ في العالم.

لكن وفي نفس الوقت هناك تحدٍّ حقيقي تفرضه عاصمة بريطانيا (بل والأراضي البريطانية كلها)، وهو كيف للجاليات والأعراق المتباينة أن تتنافس على العيش بحياة كريمة. بمعنى أن عليهم يفهموا حقيقة المعركة في بلاد المهجر. فهناك أهل البلد الأصلاء وهناك الكاريبيون وهناك الهنود والصينيون والعرب وغيرهم، وبالتالي لا يُعقل أن يتحقق تقدم لأحد ما دام ينتمي لجالية لا تستطيع تقديم سوى 25 بالمئة من ناسها كأيدٍ عاملة، أو عدم القدرة على مواصلة تعليمها الأساسي والجامعي.

في المحصلة، يبقى فوز صادق خان قوة للتنوّع وللبيروقراطية البريطانية. والحقيقة أن صادق خان قد تمثل في لقبه «خان» بصوره الثلاث. فهو صادق الذي عاش في «خان» كالذي يرتاده المسافرون على الطريق، وفّره المجلس المحلي في لندن لعائلته عند قدومها في الستينيات وهي تكابد العيش. ثم أصبح صادق «خان» سيداً موقراً (كما في أحد تعريفات لفظة خان) عندما أصبح محامياً بارعاً ونائباً في مجلس العموم البريطاني. واليوم أصبح صادق «خان» فعلاً حاكماً وفق تعريف الكلمة لحكام الترك والمغول كسادة أشراف، وملوك مطاعين، بعدما صار عمدة للندن!

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4993 - الأحد 08 مايو 2016م الموافق 01 شعبان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 5:04 ص

      اكبر مشكله سيواجهها صادق خان لو كان في ديار المسلمين هو انه ..

    • زائر 3 | 1:14 ص

      صادق خان بريطاني مسلم من أصل باكستاني وصل الى مقعد عمدة لندن وفي المقابل مواطنون في بلدانهم ممنوعون من الاقتراب من بعض الوزارات للعمل بها ..
      ترى بماذا نقيس ظلامتنا وبأي الشعوب نقارن نفسنا

    • زائر 2 | 1:05 ص

      كم حلمت وأنا في وطني ووطن أجدادي أن أشغل منصب بسيط في بعض الوزارات السيادية رغم أنني بحريني اصيل لكن للأسف حتى بعض الوظائف الراقية منعت من إشغالها ...

    • زائر 4 زائر 2 | 4:30 ص

      صادق خان يساري ومن أصل مسلم. ما وصل إليه باجتهاده وبسبب انه يعيش في مجتمع علماني حر وليس مذهبي وقبلي

    • زائر 1 | 11:40 م

      Great

اقرأ ايضاً