العدد 5062 - السبت 16 يوليو 2016م الموافق 11 شوال 1437هـ

الوجه الآخر لبريطانيا «الأوروبية»؟

عبدالحسين شعبان comments [at] alwasatnews.com

كاتب عراقي وحقوقي عربي

أيّد البريطانيون انسحاب بلادهم من عضوية الإتحاد الأوروبي، وكانت نتيجة الاستفتاء 52 في المئة لصالح الانسحاب، في حين صوّت لصالح البقاء 48 في المئة، وبلغت نسبة التصويت 72 في المئة من الذين يحقّ لهم التّصويت، وهذه أعلى نسبة تشهدها بريطانيا، حيث شارك نحو 33 مليون شخص، صوّت 17 مليون منهم لصالح الخروج، وصوّت 16 مليوناً لصالح البقاء.

الصراع المحموم الذي شهدته بريطانيا عشية الاستفتاء، شمل جميع نواحي الحياة، واستخدم فيه الفريقان كل ما يستطيعان لدعم وجهات نظرهما، وبلغ الأمر أن فقدت النائبة جو كوكس في مجلس العموم البريطاني حياتها، بسبب تأييدها البقاء في الإتحاد الأوروبي، حيث أطلق عليها النار أحد المتطرفين في الشارع. وتأتي حادثة الاغتيال السياسي هذه، كسابقةٍ خطيرةٍ لم تعرفها بريطانيا منذ ما يزيد عن عقدين من الزمان.

الفريق المعارض للبقاء هو الأكثر يمينيةً، واتّسمت مواقفه عموماً بالسلبية تجاه اللاجئين والأجانب، وظلّ يعزف على وتر الخسائر التي تعرّضت لها بريطانيا بسبب انضمامها للإتحاد الأوروبي المشكوك في استمراره، وذهب نايجل فيراج زعيم حزب الاستقلال (اليميني المتطرّف) إلى اعتبار نتائج الاستفتاء بمثابة يوم استقلال، وخاطب البريطانيين «احلموا ببزوغ فجر مملكة متحدة مستقلة».

أما الفريق المؤيّد للبقاء، فظلّ يحذّر من النتائج الكارثية للانسحاب، سواءً على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، بما له علاقة بالعمل الأوروبي المشترك. وعلى رغم أن زعماء مثل باراك أوباما، والرئيس الصيني شي جين بينغ، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وحكومات حلف الأطلسي (الناتو) ودول الكومنولث البريطاني، حثوا الناخبين على التصويت لصالح البقاء تحت عنوان أن بريطانيا ستنعم داخله بقوة ونفوذ أكبر، إلاّ أن الناخبين كان لهم رأي آخر حين صوّتوا لصالح الانسحاب. وتلك «نعمة» الديمقراطية، وربما «نقمتها».

بريطانيا «العظمى» اليوم منقسمة، لدرجة أنها جعلت أوروبا في حيرة، فكيف سيتم التعامل مع النتائج على صعيد المستقبل، فقد اختار الإنكليز والويلزيون التصويت بـ «لا»، أما من صوّت بـ «نعم»، فقد كان سكان لندن (المدينة الكوزموبوليتية – ذات الطابع الأممي)، مثلما قالت اسكتلندا «نعم» بنسبة 62% وهدّدت بالانفصال بإعادة الاستفتاء ثانيةً بعد أن فشل الاستفتاء الأول من الحصول على الغالبية. وقالت رئيسة وزرائها نيكولا ستورجيون، إنها ترى مستقبل اسكتلندا في الاتحاد الأوروبي، وأن «خروجنا هو دون رغبةٍ منّا، وهذا ما لا يمكن قبوله ديمقراطياً». وكانت إيرلندا صوّتت لصالح البقاء أيضاً، الأمر الذي سيترك تأثيراته على مستقبل بريطانيا لاحقاً.

وبغض النظر عن تراجع الأسواق المالية وانخفاض قيمة الجنيه الاسترليني أمام الدولار واضطراب سوق الأسهم وتكبّد الكثير من الشركات الأوروبية خسائر ضخمة، لكن التجربة الاستفتائية بكل ما لها وما عليها، تستحق التوقف عندها، من زاوية إرادة الناخبين، خصوصاً الفقراء منهم الذين أُثقلوا باستقطاعات كبيرة، وساءت أوضاعهم المعيشية في السنوات الأخيرة، وتلك إحدى «ضرائب» الديمقراطية التي ينبغي تسديدها، فكلمة الغالبية هي الفيصل في شرعية الحكم.

وإذا كان الشعب البريطاني بغالبيته قد اتّخذ القرّار، فلابدّ من الاستجابة لقراره والانصياع لمقتضياته، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون حين قال: «أعتقد أن البلاد تحتاج إلى قيادة جديدة تأخذ على عاتقها هذا الاتجاه». والمقصود ترتيب تفاصيل الانسحاب من الإتحاد الأوروبي، طبقاً لمعاهدة لشبونة لعام 2007، ولا سيّما المادة 50 منها التي وضعت مدّة عامين لتنفيذ ذلك، وقد بادر إلى تقديم استقالته، وأبلغ الملكة أليزابيث ألكسندرا ماري أنه سيسلّم السُلطة إلى رئيس وزراء جديد فور انتخاب حزب المحافظين زعيماً جديداً له في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، (كما تقتضي التقاليد الديمقراطية).

لست من المعجبين بالسياسة البريطانية، خصوصاً الخارجية، ولا سيّما إزاء قضايا الأمة العربية، فلندن هي المسئولة عن وعد بلفور العام 1917، وهي التي دفعت الأمم المتحدة لإصدار قرار التقسيم 181 لعام 1947 بخصوص فلسطين، وهي التي سهّلت عملية هجرة اليهود ممالأةً للصهيونية، وهي المشاركة الأساسية في العدوان الثلاثي (الأنكلو – فرنسي – الإسرائيلي) على مصر العام 1956، وظلّت سياستها على الدوام لصالح «إسرائيل» ومشجّعةً على عدوانها المستمرّ على الأمة العربية.

لكنّني لا أخفي إعجابي بالديمقراطية البريطانية العريقة، التي لم تكن منّةً أو هبةً من الحكّام بقدر ما كانت نتاج كفاح وتضحيات أجيال منذ العهد العظيم (العام 1215) والحركة الجارتية ابتداءً من العام 1679 وما تبعها من تطورات نحو الملكية الدستورية طيلة ثلاثة قرون ونيّف من الزمان، تلك التي أرست الحكم على قاعدة ديمقراطية باحترام إرادة الغالبية واختيار الحكام واستبدالهم على نحو دوري، في ظلّ حكم القانون واستقلال القضاء والإقرار بالتعدّدية والتنوّع وتعزيز الحريّات، وخصوصاً حريّة التعبير، في إطار من الشفافية والمساءلة.

وحتى لو كانت إرادة الغالبية خاطئةً، فيمكن معالجة الخطأ بالمزيد من الديمقراطية، فالديمقراطية ليست بلا عيوب أو نواقص، وعن طريق كسب الناخبين يمكن التقليل من تأثيراتها السلبية وتصحيح مساراتها الخاطئة.

لقد حاول رئيس الوزراء ديفيد كاميرون استخدام وسائل متعدّدة لإبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، بما فيه حشد رأي عام وبمشاركة من رئيسي وزراء سابقين هما جون ميجر وطوني بلير وطاقم أساسي من حزب المحافظين، لكن محاولاته باءت بالفشل، فأقرّ بشجاعة وروح رياضية بالهزيمة، وأعلن استقالته مقراً بفوز خصومه، وتلك لعبة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة والمنافسة المشروعة.

كم علينا التفكّر بالدرس البريطاني «الأوروبي»، دون أي مكابرات أو مزاعم أو ادعاءات أو تبريرات؟ ولنمعن النظر بمحايثات فريق الانسحاب كيف تصرف إزاء فريق البقاء «المنتصر والمهزوم»، فذلك هو الوجه الآخر لبريطانيا المؤسسات وحكم القانون والديمقراطية، وتلك حصيلة ثقافة مدنية سلمية وتراكم تقاليد وممارسات طويلة الأمد.

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"

العدد 5062 - السبت 16 يوليو 2016م الموافق 11 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً