العدد 5068 - الجمعة 22 يوليو 2016م الموافق 17 شوال 1437هـ

عوْلمة الكذب باعتباره حقيقة!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

ليس بينك وبين الحقيقة سوى ألَّا تحتقر الحقيقة لدى الآخر. الحقيقة التي يعتقد بها. ليس شرطاً أن تعتنقها، ويمكنك الكفر بها، لكن ليس من حقك أن تسفِّه ما تسمِّيه «أحلام» صاحبها! وحدها الحقيقة التي لها أكثر من أب، وأكثرهم يُسيء معاملتها وتعنيفها بإصراره على أنها من صلْبه، ويقدِّمها إلى الناس أحياناً مُشوَّهة، ومشوِّهة له؛ ليكتشف بعضهم أنها مسْخ، وبعض آخر يرى منها ابتداء الجمال، وإليها الانتهاء!

***

صراع العالم اليوم، في أغلبه ادِّعاء الحقيقة. الحقيقة التي هي في كثير من الأحيان، تزييف وتزوير وختَل وادِّعاء وتوهُّم، وفرْض لها بالقوة والمال. «الحقيقة» التي تملك كل هذه الشهوة في زعزعة استقرار العالم، وتقويض ما تبقى فيه من قيمة سلام، هي التي يجب أن تُحارب وتُواجَه، لأنها كرَّست وتكرِّس استمرار العذاب البشري إلى ما لا نهاية.

***

في حروب الطوائف اليوم أكثر من حقيقة تُرفع لها أكثر من راية. في المذابح التي باتت الفعل «الخلَّاق لدى بعضهم، تكون الحقيقة هي البسملة قبل أن يهرق الدم الحرام. في الانتهاكات التي تعمُّ العالم، ستجد الحقيقة هي الراية المرفرفة ساعة اقتحام الحدود، وتجاوز مسلَّمات الفطرة البشرية والأخلاق، وما تبقى من فُتات قيَم!

***

بكل تلك الصُور، نجد أنفسنا وبالفطرة أيضاً نستدعي شيئاً من مخزون الحكايات التي تُسْرد قبل النوم. استدعاء «ليلى والذئب»، لكن هذه المرَّة ذهاباً إلى النقيض؛ حيث الحقيقة هي «الذئب»، و «ليلى» أولئك الذين يُمارسون كل موهبة المحْو بذريعة إعادة كتابة نص العالم، بكل مخلوقاته وأشيائه!

***

الحقيقة وإن ظلت نسبية، في جوانب منها، ومهما جُيِّش في سبيل مواراتها وحجْبها عن الناس، سيقدَّر لها أن تجد حضورها؛ على رغم سطوة المال، والخسف الذي يمكن أن ينتج عن القوَّة. تملك الحقيقة طرق بروزها والمكوث أيضاً.

***

هنالك أدوار - أممية - لعوْلمة الكذِب باعتباره «حقيقة». الآلة الإعلامية الضخمة والخرافية، بكل منصَّاتها ووسائطها، والجيوش المنتسبة إليها، ينحاز جزء كبير منها إلى مثل تلك العولمة. أداء الدول الكبرى اليوم، في نظرها إلى العوالم التي تكاد لا تُرى بالعين المجرَّدة بالنسبة إليها، هو ضرب من ضروب عولمة ذلك الكذب، كي يُصار إلى هيمنة أقل كلفة، ليس على الموارد والحدود، بل على ما تبقَّى من عقل في تلك الحدود!

***

السياسة هي أكثر ما يُفسد الحقيقة، إن وُجدت اليوم. إذا أردت تدمير حقيقة، ادفع ببعض السياسيين ليحوِّلوها إلى كذِب. وفي الوقت نفسه، إذا أردت تنزيه الكذِب، ادفع ببعض السياسيين ليحوِّلوه إلى «حقيقة».

***

هل لأن الحقيقة تُقدِّمنا إلى العالم، ببرائتنا وجناياتنا... بجمالنا وقبحنا... بضعفنا وقوتنا... بتضحياتنا وأنانيتنا... بصلابتنا وهشاشتنا؟ ألهذا هي مُرعبة لمجموعة، ومبعث اطمئنان لمجموعة أخرى؟

***

الباحثون عن الحقيقة هم الذين يدفعون ضرائب في سبيل الوصول إليها. لأنهم حريصون على اطمئنانهم، وفي اطمئنانهم، اطمئنان العالم من حولهم. المُدمنون الكذب لا يحتاجون إلى سبيل أو سعي، ويدفع ضرائب كذبهم بشر ربما يكون لهم بدء، ولكن من الصعب أن يكون لهم انتهاء. أولئك يكذبون بشكل مُضاعف حين يوهمون أنفسهم باطمئنانهم إلى أن الكذب سيجد حضوره المؤبَّد في عقول الذين يستهدفونهم، وتناسوا أن عُمر الكذب بعُمر الزئبق؛ فيما «الحقيقة» إذا استوت بين الناس، جبل من معدن نفيس!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 5068 - الجمعة 22 يوليو 2016م الموافق 17 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 6:24 ص

      لم أكن أعرف بأن السياسين أبرع الناس في الكذب ...حتى رأيته واقعا نعيشه ... الكذب يحيط بنا في كل نواحي الحياة

    • زائر 3 | 4:10 ص

      عيش فى دنياك مظلوم ولاتعيش ظالم نسال الله حسن الخاتمه والله افرج عنا وعن الشعوب المظلومه ياالله ياكريم

    • زائر 1 | 10:53 م

      أصبحت الحقيقة درة نادرة جراء وجهات النظر المتطرفة وغير الموضوعية. أما ما يجري في سراديب السياسة وكواليسها وبالرغم من هذا الضجيج الإعلامي المحيط بنا فالحقيقة نسبية، والمعرفة أضحت جوهرة دفينة حتى أصبح الشك هو العصب الرئيس في جميع المعلومات، والحقيقة سيدونها التاريخ فيما بعد. وهل سيعرف التاريخ الحقيقة ليدون الأحداث؟

    • زائر 2 زائر 1 | 1:52 ص

      اصبح الكذب يدرس ومهاره لمصالح البعض .

اقرأ ايضاً