العدد 5080 - الأربعاء 03 أغسطس 2016م الموافق 29 شوال 1437هـ

الأقل هو الأكثر

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

بين عامَيْ 1886 - 1969 كان يعيش في ألمانيا رجل اسمه لودفيغ ميس فادن دي رو (تُكتَب بالألمانية هكذا:Ludwig Mies van der Rohe). هذا الرجل ذاع صيته في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ثم العالم كله. شهرته لم تأتِ من الفن ولا الرياضة بل من كونه مهندساً معمارياً مرموقاً.

وعلى رغم أنه صمَّم معهد إلينوي للتكنولوجيا وناطحة السحاب سيغرام في نيويورك قبل أزيد من 68 عاماً، والمتحف الوطني في ألمانيا (وكلها مبانٍ شهيرة) إلاّ أن أساس شهرته هي نظريته المعمارية القائمة على: «الأقل هو الأكثر». وربما من الأمانة الإشارة، إلى أن لودفيغ ربما استعار هذه العبارة من الشاعر الانجليزي الشهير روبرت براونينغ الذي تُوفي في العام الذي وُلِدَ فيه لودفيغ.

فكرة لودفيغ الأساسية في العمارة تقوم على تكريسه مفهوما جديدا (آنذاك) يتوخى البساطة المتناهية ووضوح المباني المُشيَّدة، وكأنك ترى جسماً شفافاً، لذلك أسماها عمارة الجلد والعظم، فضلاً عن عدم التكلُّف في داخل تلك الأبنية عبر ترك فراغات يتم استثمارها بشكل جميل وغير مُكْلِف. وقد طبّق ذلك المفهوم في أغلب مبانيه التي شيّدها في دول أوروبية وفي الولايات المتحدة.

في لحظة ما، بدأت تلك الثقافة المعمارية تنسحب على أشياء أخرى في المجتمعات الغربية. لقد بدأت تسري إلى الكتابة الأدبية والصحافية، من أجل التخلص من نمطية القلم ومراعاة الإيجاز وإشراك القارئ مع الكاتب عبر دفعه للتفكير بعد أن يفرغ من القراءة كي تفتح له نافذة خاصة.

بعدها بدأ الفنانون يقولون ذات الشيء عن لوحاتهم: لماذا نُزخرِف أكثر من اللازم؟ لماذا نُضمِّخ لوحاتنا بأكبر عدد من الألوان؟ لماذا نضع أدق التفاصيل ونستهلك فيها وقتاً أكبر، في حين أنها لا تُشكِّل بؤرة شعور لمن يراها؟! المصوّرون الفوتوغرافيون قالوا نفس الشيء عن صورهم الملتقَطَة.

ثم بدأت تتوسّع تلك الثقافة لتصبح أسلوباً جديداً لحياة الناس في تلك الدول. لقد باتوا يقولون: لماذا لا يكون الأقل في الطعام هو الأكثر. ولماذا لا تكون الحاجيات الأقل في المنزل هي الصورة الأكثر بروزاً. بل ولماذا لا نختار أصدقاء أقل لنحصل على علاقات صادقة أكثر. وجعلوا من مسألة التدرُّج في التطبيق منهجاً كي ينسجم التفكير مع التهيئة النفسية ثم مع تلك النظرية.

لقد تبيَّن أن أهم دافع لتلك الثقافة في الغرب كانت الرأسمالية وتوحُّشها على الناس. الرأسمالية التي تسمح بأن يعيش فردٌ واحد ويموت ألفٌ من أمثاله. أو تُرمَى كميات كبيرة من الطعام في البحر من أجل أن تبقى الأسعار على ما هي عليه. وأن تنطلق مهرجانات اللعب بالماء، بينما يموت الآلاف من الأفارقة في الصحراء. صحيح أن الرأسمالية المتوحشة لم تتكسَّر لكنها احتُقِرَت هناك.

الحقيقة أننا لو تمعنا جيداً في الموضوع فإننا سنكتشف بأن ثقافة «الأقل هو الأكثر» هي في حدّ ذاتها تنسجم مع كل الشعارات التي تنادي بها فطرة البشر ودعوات الأديان. وإذا كان الحال كذلك، فإن الأوْلى أن يكون الشرق (والذي نحن منه) المكتنز بتاريخ فلسفي وديني منذ القِدَم هو المتلقف لتلك الثقافة.

لكن هذه النظرة بعيدة عنا كثيراً. فالذي يظهر هو حالة من التخمة لدينا في كل شيء. تعالوا إلى ما يفعله الكثيرون عندما يُشيّدون بيوتاً، وكيف أنهم يبنون كي يتسع المكان إلى 10 أضعاف ما يحتاجونه. هذا على مستوى الأفراد متوسطي الحال، أما الحديث عن مالِكِيْ الأموال المكنوزة فهم يبنون بيوتاً «قارونيَّة» يضعون فيها ما لا يخطر على بال. ولو فُتِحَت أبوابها لرأينا العجب العجاب.

في الأفراح والأتراح العامة نرى ذلك جلياً بصورة تؤلم القلب. فالأكل يُصنَع وكأن الخلق كلهم سيحضرون. البعض يفعل ذلك للتباهي والآخر بدافع الكرم. وكِلا الأمريْن مذموم؛ فالتباهي بالخطيئة جرم مُركَّب، والبذل بتلك الطريقة إسراف منهِيٌ عنه، فـ «الإسراف يفني الجزيل» كما جاء.

حتى في الوقت لم نعد نحسب الدقائق جيداً حتى أصبحت الساعات تنصرم في المِراء، والتنقل من مجلس إلى آخر على مدار الأسبوع، وكأننا في حملة انتخابية، دون أن نتكلَّف أن نسأل أنفسنا عن حق الأبوين والأولاد والزوجة وحق المحتاجين وحتى حق النفس! والمنطق يقول بأن محدودية الإنسان تجعل إسرافه في شيء يعني تقتّرا في أشياء أخرى؛ في الوقت والمشاعر والمال وكل شيء يملكه.

أحد الأصدقاء أعطاني تجربة فريدة هو عاشها. فقد كان مُكثِر الخروج من المنزل، نحو المقاهي والمجالس وما يعقبها من وجبات طعام ليلية. وبعد أن اكتشف أنه غارق في سيل من الوقت المُراق في يوميات لا تنتهي، تعاهد أن يلجم ذلك ويعيد أولويات حياته. وبدأت ساعاته في المقاهي والمجالس تقل ليقضي فائضها بين أسرته والكتاب. لقد اتضح له أن الفارق كبير إلى حد لا يوصف.

وفضلاً عن تعاظم علاقته بأسرته، وكثرة اطلاعه، بات يوفِّر من المال ما نسبته 96 في المئة مما كان ينفقه على ساعات المقاهي والمجالس وتبعاتها التي تعقبها من بذل غير محسوب. لقد اتضح له فعلاً أن ساعات أقل في الفضاء المفتوح تعني علاقة أسرية أكثر ارتباطاً، ومالاً أكثر يمكن بذله في واجبات حياتية أكثر إلحاحاً وأهمية. فثلاث كلمات كافية كي تُغيّرنا جذرياً: الأقل هو الأكثر.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5080 - الأربعاء 03 أغسطس 2016م الموافق 29 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 11 | 3:27 م

      موضوع جميل.
      ماذا لو أضفنا كلمتين وهما " بشرط الفائدة " ونحويا هي ثلاث كلمات . فيصبح القول : " الأقل هو الأكثر بشرط الفائدة " .
      ذلك يعني أن هذا الأقل قد لا يكون هو الأكثر إذا لم يحقق الفائدة .
      فإذا تحققت الفائدة فليس هو إسراف ، ويكون إسرافا إذا تجاوز الفائدة.
      مثال : الولائم التي تحقق الفائدة منها كالإطعام مثلا ، كافية تحت هذا الشرط ، وغير كافية إذا لم .

    • زائر 10 | 2:10 م

      سلمت يداك بو عبدالله

      اشكرك على مقاللك الرائع وهو ايضا ...الاقل الاكثر... لقد اختزلت عدة مقالات في مقال واحد. ربي يحفظك

    • زائر 9 | 5:23 ص

      القناعة كنز لا يفنى .... يساوي تقريبا (الأقل هو الأكثر )

    • زائر 8 | 4:54 ص

      مقال رائع ..

    • زائر 7 | 4:29 ص

      موضوع جميل ... ياريت الناس تلتفت انه مافي احلى من البساطة ... الناس في وقتنا الحاضر اغلبهم عندهم التكلف و التصنع اللي المجتمع فرضه عليهم ... فتلاقيهم اذا اتصل خمسة أشخاص بيحضرون البيت كضيوف ، الطعام يكفي لما يقارب عشرين شخص ... الخزانة لازم تكون مليانة من الثياب لأن ما لازم احد يشوفك بالثياب اللي لبستها من قبل ... الهدايا اللي الأصدقاء يتبادلونها لازم تكون غالية و على مستوى لأنها صارت تعطي انطباع عن مستوى اللي اهدى الهدية ... بيتك الجديد لازم يتم تأثيثه بمستوى عالي حتى تثبت ان عندك ذوق في الاثاث

    • زائر 6 | 3:40 ص

      أحسنتم .. مقال رائع

    • زائر 5 | 3:33 ص

      في الصميم
      مبدع دائما

    • زائر 4 | 3:16 ص

      شكرا للاخ محمد ، انا اشيد بيت العمر (بيت جديد) ولكن المقالة غيرت كثير من افكاري في التشييد .

      وفي نيتي اسرف في الديكور والزخرفة وحجم الغرف والملحق وقد قلبت الفكرة ( الاقل هو الاكثر) لكن الآن اقتنعت من بعد قرأتي للمقالة انه فعلا ( الاكثر هو الاقل ) وشكرا جزيلا للوسط واسرتها المبدعة وكتابها الكثر هم الاقل .

    • زائر 2 | 2:13 ص

      كعادتك .. مقال روعة كانت الفكرة محل نقاش او قل جدال مع صاحبة البيت! .. ارسلته لها "زوجتي" لأنها لا تنفك تتخم البيت بالأثاث والاكسسوارات و الحلي و الأواني حتى انني اخجل ان دخل عامل تصليح بحريني (على قد حاله)! البيت كأنه فندق او صالة اعراس .. رغم اننا لا نزور ولا نُزار الا في المناسبات وهي معدودة و معهودة.
      بوركت استاذ ..

    • زائر 1 | 12:27 ص

      مقال رائع جدا !

اقرأ ايضاً