العدد 5089 - الجمعة 12 أغسطس 2016م الموافق 09 ذي القعدة 1437هـ

تطور النكتة المصرية منذ عصر «أبو نظارة»

رضي السماك

كاتب بحريني

ظل الشعب المصري بلا منازع هو سيد النكتة والفكاهة بين أشقائه الشعوب العربية، وعُرف عنه منذ قرون توظيفه إياها كأخطر سلاح احتجاجي سلمي ضد حكامه المتسلطين على تعاقب عهودهم، حتى لا يكاد واحد منهم قد فلت من ألسنة شعبه الفكاهية اللاذعة، ولم يكن غريباً أن يتسيد فنانو الكاريكاتير المصريون هذا الفن عند توظيفه للسخرية السياسية الهادفة، ولعل مصر هي أول من أدخل فن رسم الكاريكاتير في الصحافة العربية، إلى جانب المقالات الانتقادية اللاذعة الهادفة. وفي العام 1877 صدرت في مصر صحيفة تخصصت في نقد الأوضاع القائمة باسم «الشيخ أبو نظارة» وكان صاحبها الكاتب المسرحي اليهودي المصري المعروف يعقوب صنوع، وحققت نجاحاً باهراً في إقبال الجمهور عليها، حيث كانت تنفد أعدادها بسرعة فائقة على الرغم من أن عدد نسخها كان يصل إلى 15 ألف نسخة، وهو رقم ضخم بلا شك بمقاييس انتشار صحافة ذلك الزمان بالنظر إلى ضآلة أعداد المتعلمين والنخبة المثقفة. ولم يكن وراء النجاح الباهر الذي حققته الصحيفة لغتها النقدية الساخرة أو لاعتمادها اللهجة الدارجة في تحرير المادة التهكمية الخفيفة فحسب، بل ولأن ثلاثة من كبار المصلحين كانوا يكتبون فيها ألا هم محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعبدالله النديم. وكذلك لإدخالها لوناً مميزاً من فن الكاريكاتير. وعلى شاكلة الفنان السوري دريد لحّام في مسلسلاته التي تتناول شجون وأحوال الحارة في ظل استبداد شيخها أو «مختار الضيعة» لترمز لشجون وأحوال الشعب برمته تحت استبداد الحاكم. كان «شيخ الحارة» المعني في «أبو نظارة « هو الخديوي إسماعيل الذي أدى فساده وتبذيره المال العام كما يحلو له إلى إفلاس البلاد وإرهاقها بالديون الثقيلة إرضاءً لنزواته بجعل مصر قطعةً من أوروبا فيما شعبها يئن من الفقر والأمراض وسواده الأعظم يتخبط في الأمية والجهل. وكان الخديوي إسماعيل مُعجباً في البدء بصاحب صحيفة «أبو نظارة» يعقوب صنوع وأطلق عليه «موليير مصر»، لأنه أول من أنشأ مسرحاً عربيّاً في القاهرة، لكنه لم يتحمل مسرحياته النقدية الهادفة وكذلك ما ينشره في صحيفته «أبو نظارة»، فأغلقها وأغلق مسرحه واضطره ذلك للهجرة إلى باريس، وأعاد من هناك إصدار صحيفته تحت مسميات شتى وصلت إلى 12 مرة، منها: «أبو نظارة زرقاء»، «أبو صفّارة»، «أبو زمارة»، «النظارات المصرية»، «الثرثارة المصرية»، إلا أنها ظلت مع تعدد هذه الأسماء محافظةً على نهجها الهزلي الانتقادي الساخر في نقد سياسات الخديوي إسماعيل.

ومنذ مطلع القرن العشرين حققت مصر قفزة في التوسع في أشكال الصحافة المصرية الانتقادية الساخرة وبخاصة مع تطور واتساع استخدام الكاريكاتير الذي لم تخلُ منه كل الصحافة المصرية تقريباً ووُظف لمختلف الأغراض السياسية والفنية والاجتماعية، لكن ظلت النكتة هي السائدة وسريعة الانتشار بين عوام الشعب المصري في عصرٍ لم تظهر فيه وسائل التواصل الاجتماعي بعد، وكانت مصدراً لقلق وإزعاج حكامه، ولم تستثنِ حتى الرئيس جمال عبدالناصر المعروف بشعبيته الجارفة في أوساط المصريين، حتى قيل بأنه أنشأ قسماً خاصاً أو وحدة استخباراتية خاصة لرصد النكت اليومية وتحليل مدلولاتها السياسية. وفي السنوات الأخيرة، وعلى الأخص منذ هبوب عواصف الربيع العربي في مطلع العقد الحالي أخذت الشعوب العربية، ومنها الخليجية، تلجأ إلى سلاح النكتة للتعبير عن خلجات آلامها وأحلامها المكبوتة، وبخاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وظهرت مجاميع شبابية أمكنها تعويض تراجع فن الكاريكاتير والمسرحيات الساخرة بإتقان فن جديد من النُكتة والفكاهة يتمثل في إخضاع مقاطع فيديوهات من المسرحيات والمسلسلات الكوميدية العربية الشهيرة للمونتاج والتركيب واللصق للسخرية من سياسات الحكومات العربية وأعلى المسئولين فيها، وكلما بلغ العمل المُنتج درجة عالية من الإتقان والحرفية حقق انتشاراً واسعاً على امتداد العالم العربي وأمكنه إغراق الجمهور المتلقي في نوبات من الضحكات المتواصلة من جنس «المُضحك المبكي»، ولعل «مدرسة المشاغبين» هي أشهر مسرحية مدت المتخصصين في هذا النوع من إنتاج «النكتة الإليكترونية»، بمخزون ضخم من المواقف الهزلية الساخرة، ومن سوء طالع الرئيس المصري الإخواني السابق محمد مرسي أن يكون له نصيب الأسد فيما ناله من مقاطع الفيديو الخاص بالمسرحية ذاتها المعاد منتجتها، حيث وجد المتخصصون في هذا النوع من الفن ضالتهم في تطابق اسمه مع إسم الممثل الكوميدي الراحل سعيد صالح في المسرحية «مُرسي الزيناتي» .

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5089 - الجمعة 12 أغسطس 2016م الموافق 09 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً