العدد 5091 - الأحد 14 أغسطس 2016م الموافق 11 ذي القعدة 1437هـ

نابليون «المؤمن»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل 247 سنة، وفي مثل هذا اليوم، الخامس عشر من أغسطس وُلِدَ نابليون بونابرت. هذا الطفل أصبح تالياً امبراطوراً على فرنسا لفترتين، الأولى واستمرت عشرة أعوام (1804– 1814م) والثانية ثلاثة أشهر (مارس – يونيو 1815)، وغازياً للعديد من الدول في جواره القريب والبعيد.

قبل أن يتقلَّد نابليون مقاليد الحكم في فرنسا، كان أهلها قد ثاروا على الملكيّة وحطموا سجن الباستيل وذلك في العام 1789، أي قبل 15 عاماً من مجيئه للزعامة. لذلك عندما جاء إلى السلطة «مُنقَلِباً» حرص على جَعْل شعاراته متناغمةً مع شعارات الثورة من حرية وعدالة وحقوق إنسان.

لكن، تبيَّن للفرنسيين لاحقاً أنه ليس كذلك. وتبيّن للمثقفين والفلاسفة أنه عدوّ لشعاراته. لقد حارب جيرانه، وسيَّر 700 ألف جندي لقتال روسيا فانفضّ الجمع من حوله. حتى بتهوفن، الذي كان قد أهدى إحدى سيمفونياته الموسيقية إليه، كونه حامياً للقيم الفرنسية الأصيلة، سَحَبَ تأييده له، وكذلك فعل الفيلسوف جورج فيلهلم هيغل.

لكن، هذا الخداع في ادعاء «القناعات» و«الشعارات» استخدمه نابليون ضد العرب قبل الفرنسيين، ولكن ليس عبر شعارات الثورة بل عبر الورقة الدينية، كيف؟ فقبل ستة أعوام من زعامة نابليون على فرنسا، كان الرجل جنرالاً في جيش بلاده، يقود حملةً على مصر والشام. وعند اقترابه من مصر قام بإصدار وثيقة عجيبة وإعلان مريب للمصريين!

لقد وجَّه خطاباً إلى مشايخ وزعماء الأزهر الشريف وإلى أهل مصر، الذين كان تعدادهم في تلك الفترة حوالى المليوني نسمة بدأه بالبَسْمَلَة وشهادة ألاّ إله إلاّ الله، ثم قال: «إن الفرنسيين مسلمون مخلصون وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في روما الكبرى وخرّبوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحثّ النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطا وطردوا منها فرسان القديس يوحنا الذين كانوا يزعمون أن الله يطلب منهم مقاتلة المسلمين»، ثم ادّعى اعتناقه الإسلام لتعميق الخديعة.

لكن، ذات الرجل الذي قال بأنه حامٍ للإسلام وأنه بات يعتنقه، فَعَلَ ذات الشيء عندما وصل إلى أسوار القدس خلال حملته على الشام. فذات الخطاب الذي أذاعه للمصريين المسلمين، أذاعه لليهود في فلسطين الذين كان تعدادهم في ذلك الوقت في حدود الألفين، مستبدلاً عبارات «يهودية» جديدة بدل العبارات «الإسلامية» السابقة كي يحقق ذات الغرض «المضمر» في قلبه وعند مَنْ أرسله.

لقد نادى في اليهود قائلاً: «أيها الشعب الفريد، الذي لم تستطع قوى الطغيان أن تسلبه نَسَبَه ووجوده، وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد. إنّ مراقبي مصائر الشعوب الواعين المحايدين قد أدركوا ما تنبأ به هؤلاء بإيمانهم الرفيع أنّ عبيد الله سيعودون إلى صهيون وهم ينشدون، وسوف تعمّهم السعادة حين يستعيدون مملكتهم دون خوف. انهضوا بقوة أيها المشرّدون في التيه».

ثم وعدهم ذات الوعد وهو أن «فرنسا تقدّم لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل، وهي تفعل ذلك في هذا الوقت بالذات، على الرغم من شواهد اليأس والعجز. فالجيش الذي أرسلتني العناية الإلهية به، ويمشي بالنصر أمامه وبالعدل وراءه، قد اختار القدس مقراً لقيادته، وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق المجاورة التي استهانت طويلاً بمدينة داود وأذلتها يا ورثة فلسطين الشرعيين».

وربما صدَّق المصريون خطابه لجور المماليك عليهم، وكذلك اليهود لخوفهم التاريخي مما جرى عليهم ولأقليّتهم، دون أن يعلموا أن هدف نابليون هو تحقيق رغبة الدولة الفرنسية في إقامة قاعدة سياسية واقتصادية وثقافية في الشرق، وعرقلة المساعي الانجليزية وتواجدها في الهند وبقية المستعمرات، فضلاً عن جعل موارد هذه المناطق في خدمة الدولة الفرنسية وخزينتها ورفاهها.

وقد ذكر أحد الباحثين أن مساعي الدكتور أحمد الصّاوي في الوقوف على الأهداف والسياسات الحقيقية التي كان يُبيِّتها الفرنسيون كانت مذهلة حين ولج إلى خزائن وزارة البحرية الفرنسية التي كانت تضم أدق تفاصيل ما جرى بتوسّع أكثر مما كان موجوداً في وزارة الخارجية الفرنسية.

الحقيقة، أن اللعب بورقة الدِّين والمذهب هي من الأوراق القديمة التي استخدمتها الدول لتحقيق سياساتها وأهدافها. فهي تدرك بأن الدِّين هو القاعدة الصلبة في وجدان الناس، وبالتحديد في منطقة الشرق، حيث مهد الأديان السماوية والأرضية على حدّ سواء.

نعم، قد يلجأ العديد من رجال الدِّين من جميع المِلَل في استخدام الدِّين لـ»تخدير» الناس وسَوْقِهِم إلى خياراتهم ومصالحهم، ولكن استخدام الدول للدِّين عادةً ما يكون أخطر كون مؤسسة الدولة أوسع من أيّ مؤسسة أخرى، من حيث الأهداف والمصالح والاستراتيجيات الموضوعة، والتي تمتد إلى المحيط الجغرافي الأوسع في البر والبحر والجو، وفي التأمُّر على الناس والاستحواذ على الثروات.

وهي سياسات لم تبدأ من حقبة نابليون ولم تنتهِ بانتهائه، بل هي من قبله ومستمرة حتى يومنا. ومن المؤسف أن نَرَى مَنْ لا يزال يُصدِّق تلك «الخرافة» وتنطلي عليه بسذاجة غريبة على الرغم من كل تلك التجارب في الوقت الذي نُردِّد فيه دائماً بأن «المؤمن لا يُلدَغ من جحر مرتين».

وربما لنا حكاية وقول نختم بهما المقال، وهي حين فطنت السيدة آن لويز جرمان (1766م) إلى نابليون (المتغني بالشعارات) قبل غيرها بسنوات قائلة: «إنه كالسيف البارد الماضي يجمد جموداً حين يجرح جرحاً، وعلمت أنه يحتقر الأمة التي يريد أن يملك عليها».

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5091 - الأحد 14 أغسطس 2016م الموافق 11 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 12:13 م

      أستاذ محمد

      ذهبت بعيييد وتقصد قريب
      وهذا ذكاء منك
      الموضوع ممتع ومفيد

    • زائر 6 | 2:57 ص

      ليس هناك أوقح من الروس في استخدام الدين لأغراضهم السياسة ... لا تنسى أنهم حاربوا السلطنة العثمانية و احتلوا شبه جزيرة القرم بحجة الدفاع عن مسيحيي الشرق الأوسط.

    • زائر 5 | 2:21 ص

      ولنا في ايران عبرة.

    • زائر 4 | 2:21 ص

      يبدو أن الفقرة الأخيرة بها خطأ:
      نابليون ولد في عام 1769 ... كيف تكون آن لويز جرمان قد تكلمت عنه في 1766، أي قبل 3 سنوات من ولادته؟

    • زائر 8 زائر 4 | 4:41 ص

      للزائر رقم 4
      النص والتاريخ صحيح فآن لويز جرمان مولودة في عام 1766م وليس المقصود أن حديثها عن نابليون كان في ذلك العام

    • زائر 1 | 11:22 م

      إنت تبغي تقول شي لكن تلف وتدور ولا تصرح باللي في خاطرك

    • زائر 2 زائر 1 | 12:32 ص

      مقال رائع (عنوان المقال ) لفت انتبهي لأقرأ

    • زائر 3 زائر 1 | 1:06 ص

      واضح..الحر تكفيه الإشارة. .واللبيب بالإشارة يفهم

اقرأ ايضاً