العدد 5094 - الأربعاء 17 أغسطس 2016م الموافق 14 ذي القعدة 1437هـ

في ترويض البشر... والمقتل بين «الفكَّين»

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

حقَّق الإنسان مُستويات ونتائج لافتة بقدرته على ترويض الحيوانات والوحوش، وحتى الطيور الجارحة. روَّض حتى الجبال التي استطاع أن يسْلكها بكل سهولة ويسْر. روَّض جانباً من المجهول الذي استطاع أن يكشفه، وبات عليه الآن أن يواجه في ترويضه أشرس وحش وحيوان ناطق: الإنسان نفسه! ولعل ذلك واحد من التحديات التي استمرَّت قروناً، ويبدو أن التفاؤل بتجاوزه محض تخرُّص وأوهام.

في القدرة على ترويض وإخضاع البعيد وغير المرئي، وغير الأليف، تنكشف حقيقة أن الإنسان تغافل أو ادَّعى الغفلة عن الوحش الكامن فيه. الوحش اللصيق به، ذلك الذي ينمو داخله، ذلك الذي لم تستطع الديانات والحركات الأخلاقية، وثورات القيم أن تجعله ينتصر على الوحش فيه، إما لأنه لا ُيريد ذلك، أو لأنه لا يريد مواجهة أن وحشاً كامناً فيه هو أخطر الوحوش إطلاقاً على وجه الأرض؛ مادام هو الحريص على تغذيته ورعايته.

الأديان والحركات الأخلاقية، وثورات القيم تقدِّم النموذج، وتقترحه، وتوْرد شواهد عليه، والنتائج التي تحصَّلت منه، لكنها لا تستطيع أن ترغم نماذج بشرية ليست قليلة على قبول مثل تلك المقترحات، واعتناق مثل تلك الشواهد؛ مادامت على مبعدة من الانسجام مع كل ذلك.

ليس لأن الإنسان لا يستطيع أن ينتصر على الوحش فيه، بل في كثير من الأحيان لا يريد أن يفعل ذلك، وفي أحيان يجد نفسه منسجماً مع ذلك الوحش، كي يسيِّر أمور هيمنته واستيلائه وطغيانه الذي لا حدود له. وكأن وجوده مرتبط بوجود ذلك الوحش، وفناءه مرتبط بفنائه ونهايته، وفي ذلك وهم قاتل ومُكْلف.

نحتاج هنا أن نقف على واحد من أصعب الترويضات التي لم يتمكَّن الإنسان على رغم كل إمكاناته، وربما مستويات تعليمه، والبيئة التي وفَّرت له قدْراً من الأدب والاتزان والأخلاق، يرتبط بوحش من نوع آخر، هو وحش اللسان، وما يُمكن أن يصدر عنه من مهالك وكوارث، لا ترتبط بالأفراد وحدهم، أو الجماعات المُحدَّدة، بل تمتدُّ لتشمل دولاً وكيانات قائمة ومعترفاً بها. يقودنا ذلك إلى مقولة القديس أغسطينوس «يستطيع الإنسان ترويض الوحوش المفترسة، أما لسانه فلا يقدر أن يلجمه»، ولعل الأبلغ من هذه المقولة بمراحل، حكمة لواحد من حكماء البشرية، الخليفة الرابع، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، تلك التي تختزل أبعاداً نفسية وسلوكية، ونتائجها في الوقت نفسه «مقتل المرْء بين فكَّيه»، ولا معنى أدل وأولى يرمي إلى ما بين الفكَّيْن سوى اللسان.

وعلينا ألَّا ننسى ونحن نعيش الجحيم الذي يكاد يمتد إلى الأرض العربية والإسلامية جميعها، جحيم حروب الطوائف التي نشهد، أنه ما كان لذلك الجحيم أن يستعر، لولا تغذيته بفتاوى تجَّار الدِّين، ومستثمري الجهل والعاطفة الجامحة عن جهل لدى شارع عريض من الجماهير، والفتاوى إنما مبعثها التقرير كتابة، أو كلاماً عبر فضائيات هي في واقع الأمر منصَّات لتدمير ما تبقى من متماسك في هذه الأمة، هذا إذا بقي شيء من ذلك التماسك أساساً، في ظل هذا التشظِّي والتشرذم الذي ينتشر بتفوُّق يتجاوز الورَم السرطاني بمراحل.

هنالك أيضاً مناهج يتم إقرارها تحت عناوين صلاح الإنسان، فيما هي واقعاً مناهج لترويضه في الصورة السيئة. ترويضه بتخليصه من الوعي الذي يجعله يسأل ويستجوب ويحتج ويشك. ترويضه، بجعله أقرب إلى الأشياء منه إلى الإنسان الذي صدح الإنسان بتكريمه في أكثر من موضع.

فشل الإنسان في ترويض عدوه الأول: الإنسان نفسه، يجعله هدفاً سهلاً لوحوش خارج إمكاناته، وخارج معرفته بالطريقة التي تفكِّر بها تلك الوحوش، ليس أقلُّها الطمع والحقد والتآمر والاستهداف؛ للاستهداف ذاته.

وعلينا للمرة الثانية أن نقف على مقولات تظلُّ عميقة ورائدة في هذا الباب، ومليئة بالتهكُّم، ومُضمرة في الكثير من مؤدَّى المعاني التي تريد أن تمرِّرها، تلك التي أطلقها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه «كن حريصاً وأنت تُصارع الوحوش حتى لا تُصبح واحداً منها». والوحوش هنا بالبديهة ليست بمنأى عن الإنسان في صراعه مع الوحش فيه، وصراعه مع البشر من حوله ممن يربُّون ويتعهَّدون الوحوش فيهم، ويدافعون عنها بشراسة لافتة. وكأن الأولوية هنا لمواجهة الوحش من الداخل، قبل مواجهة الوحش الذي ينطلق من الآخرين.

كل سياسة مدمِّرة للاستقرار البشري، وكل فتاوى تنضح بالتحريض على المُغاير، وكل امتعاض من التعايش الذي من المفترض أن يكون هو صمَّام أمان، ومدخل للالتفات إلى ما يُعلي شأن الإنسان، هو وحش يتم السهر والإنفاق عليه، والعمل على تأبيده، وفي ذلك فكُّ ارتباط بالإنسان ضمن مستوياته الطبيعية الخلَّاقة، وفكُّ ارتباط مع الأمن الذي يُعتبر عنصراً أوَّل ضمن المراتب الأولى لسلامة الوجود البشري؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يتوقع الأمن، وينشده في ظل وحش رابض فيه ومن حوله.

ولعل ما كتبه المؤلف الأميركي الذي يُعتبر معياراً من معايير أدب الرعب، وأحد أكثر الكتَّاب مبيعاً في العالم، ستيفن كينغ، يقدِّمنا إلى أنفسنا كما يجب بقوله «إن الوحوش حقيقية، والأشباح حقيقية أيضاً. إنها تعيش داخلنا، وأحياناً تفوز». وفي هذا الزمن الذي نشهد انهياراته، واستهداف الإنسان فيه، تفوز الوحوش في أكثر الأحيان، من داخلنا، ومن الخارج أيضاً!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 5094 - الأربعاء 17 أغسطس 2016م الموافق 14 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 9:36 ص

      ابدعت والدي، مقال بالصميم والادهى من ذلك الجيل القادم كيف سنوقف الوحشيه التي زرعت بهم من كل النواحي ، للأسف الوحش الكاسر ينطلق هالهيجان الثائر ليكسر كل شي جميل ولنعرف ذلك انظر حواليك للوحوش سترى العجب العجاب

    • زائر 5 | 6:16 ص

      مقالة رائدة
      شكرا ًللأستاذ و الكاتب القدير جعفرالجمري
      ونتمنى أن نكومن دائماً مع الإنسان و المحبّة و الوعي .. وأن تتم مُعالجة و مُواجهة (كارثة التوحّّش) التي تجتاحُ عالمنا !

    • زائر 4 | 6:12 ص

      مقالة رائدة
      شكراً للأستاذ و الكاتب القدير جعفر الجمري
      و نتمنى أن نكون دائماً مع الإنسان و المحبّة و الوعي .. و أن يتم علاج و مُواجهة (كارثة التوحّّش) التي تجتاحُ عالمنا !

    • زائر 2 | 12:58 ص

      بعض البشر كالعقرب فكيف تروّض العقرب؟

    • زائر 1 | 12:55 ص

      بعض البشر وخاصة من تقصد توجد بهم عقد وامراض وأضغان يخرج القلم منها القليل ولو اضطلع الناس على نفوس هؤلاء البشر لتعجّب منها ورأى ان الحيوانات المتوحشة افضل بكثير من امثال هؤلاء

اقرأ ايضاً