العدد 5094 - الأربعاء 17 أغسطس 2016م الموافق 14 ذي القعدة 1437هـ

أيها المصوِّرون... يا أسياداً في الحقيقة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لو أنني وصفتُ لكَ حال السجون في الدنمارك وقلت: في باحة السجن، النزلاء يتحركون بلا قيود ولا أغلال. الإدارة هناك، وضعت لهم طاولة للعب البليارد، وفي جانب آخر من الصالة يوجد حوض لأسماك الزينة، يقومون هم بإطعامها، دورات المياه مجهزة بكافة التجهيزات الصحية، من سوائل تنظيف وتعقيم، ومناديل ورقية مُثبتة في جهاز كهربائي يدفعها بالتوالي كلما لامستَ زرّه.

أو دعونا نقرأ نصّاً تاريخيّاً ذكره التنوخي عن إسراف أحد الخلفاء العباسيين. يقول: أراد ذلك الخليفة «أن يجعلَ كلَّ ما تقع عليه عيناهُ في يومٍ من أيام شُربِه أصفر (اللون). فَنُصِبَت له قُبَّةٌ صَندَل (خشب أصفر) مُذهَّبةٌ ومفروشة بديباجٍ أصفر، وجُعِلَ بين يديه الأُترُج (شجر) الأصفر، وشرابٌ أصفر في صواني ذهب. ولم يُحضَر من جواريه إلاَّ الصُّفر، عليهنَّ ثياب قصب صُفر». انتهى.

دعونا نُدقق في النَّصَّيْن المذكوريْن ونتخيَّل في أذهاننا ما يصفانه من حال يتحدثان عنه. لنبدأ ذلك ولمدة دقيقة واحدة. تُرى كم من الصّور المتخيَّلة التي رسمناها عن المشهدَيْن؟ أو بصورة أدق، ما هو حجم التفاصيل التي وقفنا عليها بأشكالها الفيزيائية التي يمكن أن تكون جزءًا من المشهَدَيْن؟! بالتأكيد هي كثيرة ومتعددة النماذج. ومردُّ ذلك هو الخيال الذي يتمتع به الإنسان.

لكن، ماذا لو كان أحد المشهَدَيْن أو كلاهما قد صُوِّرا بكاميرا ولو عبر صورة واحدة، ألَم تكن نسبة الحقيقة لدينا أكبر؛ كونها ترسم وتُوثق لنا الحال كما هو؟ فربما أكتب ما شاء الله عن وصف السجون الدنماركية، لكن صورة واحدة قد تغنيني عن ألف كلمة من الوصف، أو قد تضيف لي تلك الصورة زاوية مهملة، أو تعجز الكلمات عن وصفها؛ كي تجعلها محسوسة لدي، ومتشرباً لها بالكامل. والحال ذاته (كما نفترضه طبعاً) ينطبق على ما كتبه التنوخي عن أحد العباسيين.

هل تتذكرون الشهيد محمد الدُّرة التي استهدفه جنود إسرائيليون في قطاع غزة نهاية (سبتمبر/ أيلول) من العام 2000؟ بالتأكيد. تُرى ماذا لو لم يقم المصور الفرنسي شارل إندرلان بالتقاط مشهد الاغتيال، فهل كان يمكن لتقرير مكتوب أن يُحرِّره ذلك المصور أو المصور طلال أبو رحمة أن يشرح الحادث كما جرى بحذافيره؟ لا يمكن أبداً، لكن صورة فيلمية من دقيقة واحدة جعلت من القضية آنذاك قضية رأي عام، واستمرت تداعياتها حتى العام 2013 بلجان تحقيق بين باريس وتل أبيب.

في (يونيو/ حزيران من العام 2013) قام بيتر فان أجتامايل بتصوير بوبي هينلين، وهو جندي أميركي تعرّض لجروح بالغة أثناء وجوده في العراق. وقد صوَّر بيتر ذلك الجندي وهو مستلقٍ على ظهره في مسبح أحد الفنادق القريبة من مطار هيوستن. وكان منظره لافتاً حيث بدا وجهه مشوهاً بصورة شديدة، بينما جسده طافٍ على الماء وكأنه جثة لميِّت غرق صاحبها في ذلك المسبح بعد أن تعرض وجهه لهجوم من سمك قرش أو تمساح مفترس.

وقد أعادت تلك الصورة الجدل في الولايات المتحدة حول الحرب التي شنها بوش الابن على العراق في العام 2003، وكلفت الأميركيين الآلاف من القتلى وآلاف المليارات من الدولارات (بحساب جوزيف ستيغلتز). وهي قضية مازال الحزبان (الجمهوري والديمقراطي) يلعبان عليها في الانتخابات.

وفي (إبريل/ نيسان 2013) قامت تاسليما أختر بتصوير مشهد تراجيدي نادر. ففي سافار بالعاصمة البنغلاديشية (دكا) انهار المبنى التجاري رانا بلازا. وعندما ذهبت تاسليما إلى المكان التقطت صورة لثنائي من العمال الفقراء وهما ممسكَيْن ببعضهما بعضاً بعد أن قَضَيَا موتاً تحت الأنقاض. أبدعُ ما في الصورة بعد العناق هو أن أحدهما قد تدلَّت دمعة من عينه عبارة عن دمٍ قانٍ وهي في حالة تيبّس تام. كانت اللقطة غاية في الدلالة.

الحقيقة، أن التصوير والمصوِّرين يُمسِكون بهامش كبير من الحقائق التي يُمكن أن توفر العلاج الصحيح للأحداث. أتذكر أنه وحين كرَّمت الأمانة العامة للإعلام والاتصال بالحكومة اليونانية المصور الصحافي اليوناني يانيس بيخراكيس، الذي عمل طيلة خمسة وعشرين عاماً، جُلها مع وكالة «رويترز» للأنباء، سُئِلَ عن سبب اختياره هذه المهنة الشاقة والخطرة التي قد تُكلِّفه حياته.

وقد أجاب يانيس بأن بدايته كانت في العام 1984 حين ذهب إلى مشاهدة فيلم يتحدث عن الصراع السياسي في نيكاراغوا، حيث يقوم فيه مصوِّر صحافي بتغطية أحداثها الملتهِبة، لكنه يضطر إلى أن يُصوِّر زميله وهو يُعدَم رمياً بالرصاص على يد جنود أناستاسيو سوموزا، ليحملها تالياً إلى العالم حيث تكوَّنت حملة دولية شرسة ضد نظام سوموزا. لذلك كان يانيس يقول: «إن التصوير الصحافي في يد الشخص المناسب بإمكانه أن يجعل العالم مكاناً أفضل».

لكن التصوير، وفي الوقت الذي يخوض كثير من أهله صورة «الحدث الصحافي»، وتوثيق الجرائم يُشكِّل التصوير بذاته واحداً من أرقى أشكال فهم الحياة وتذوقها وإطلاق كوامن الروح والمشاعر الإنسانية، بل ورؤية هذه الدقة اللامتنهاية لهذا الكون وجماله وتناسقه. وهو أمر يفيض على المرء إفاضات لا حصْر لها، تعيده إلى ذاته وطبيعته الأولى، التي تجعله يكتشف حقيقة ما يحيط به فضلاً عن علاقاته فيه، على رغم أن تلك الصورة ما هي إلاّ لحظة تم اقتناصها من لحظات الزمن، وجانباً صغيراً من جوانب الوجود، لكنها تتضمن كل معاني الزمن الممتد وسعة هذه الأرض.

إنني بحق أهنئ هؤلاء المصوِّرين الذين جعلونا نشاهد ما لا نلتفت إليه، أو لم يُحالفنا الحظ كي نصل إلى المكان وإلى اللحظة التي هم سبقونا إليها. فصورة واحدة من صورهم المبدعة أثبتت أنها تغني عن آلاف الكلمات والعديد من الاستدلالات.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5094 - الأربعاء 17 أغسطس 2016م الموافق 14 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 1:26 ص

      لذلك في كل عام نرى عددا منهم يذهب ضحية الصراعات والبعض يتم تهشيم كاميراته

    • زائر 5 | 12:57 ص

      المصورون كشفوا الكثير من الحقائق وما خفي كان أعظم لذلك الكثير منهم بالسجون لأنهم أزالوا الغطاء
      هم مستهدفون خاصة في أي بلد يستشري فيه القمع والتنكيل

    • زائر 4 | 10:50 م

      الفقرة قبل الأخيرة أحس أن بها جزء مبتور أو خلل غير مقصود؟

    • زائر 3 | 10:48 م

      في الفقرة قبل الأخيرة، هناك استدراك بدأه الكاتب بلكن... أين هذا الاستدراك ؟!

اقرأ ايضاً