العدد 5124 - الجمعة 16 سبتمبر 2016م الموافق 14 ذي الحجة 1437هـ

الخلاعة والحضارة في أربع صور

رضي السماك

كاتب بحريني

لطالما تأتي في كثير من الأحيان صور وكالات الأنباء العالمية المنشورة في الصحف بليغة في التعبير عن دلالاتها الصادمة، سواء جاءت بكلام الصورة الـ Caption، أو بدونه، وخلال الفترة الوجيزة الفائتة لفت نظري 4 صور صحافية، كل اثنتين منها تنطويان على دلالات متعاكسة متضاربة عميقة المغزى سياسياً وخُلقياً وحضارياً في معانيهما؛

ففيما يتعلق بالصورتين الأولى والثانية، فإن الأولى كانت لشابتين روسيتين تفتقت عبقريتهما عن اللجوء إلى طريقة لإرغام السوّاق على تخفيف السرعة على الطرق السريعة من خلال رفع كل منهما لوحة تُذّكرهم برقم السرعة المسموح بها على الطريق وهي عارية الصدر، إلا أن الصحف العربية لم تنشر الصورة بكاملها لكونها تخل بالآداب، أما هل تم التنسيق مع إدارة المرور الرسمية مسبقاً لاتباع هذه الوسيلة المنحطة فلم يتضح من الخبر القصير.

الأغرب من ذلك فإن وسيلة كهذه هي مدعاة لمشاغلة السوّاق وبخاصة الشباب الذكور، فلعلهم يندفعون على الفور للدوس على فرامل سياراتهم مأخوذين بهذا المشهد المثير فيتسببون بذلك في ارتكاب حوادث سير غير مأمونة العواقب، أو تكون وسيلة ماجنة كهذه مدعاة للتحرش الجنسي، وهي ظاهرة مستفحلة في عصرنا بات الكثير من نسوة بلدان العالم، على اختلاف دياناتها وثقافاتها، يشكون منها.

أما الصورة الثانية والتي نُشرت في نفس اليوم والتي كانت لسيدة روسية أيضاً وقورة محتشمة، كما بدت من ملابس عملها، فهي لموظفة في مطار «دومديدوفا» خارج موسكو تبدو مربية أو مروّضة صقور، بدت في الاربعينات من عمرها، وهي تطعم صقراً من الصقور المُدربة على إبعاد أسراب الطيور الضالة عن الطائرات عند إقلاعها أو هبوطها في المطار، والتي لطالما سبّب اصطدامها بالطائرات في حوادث لا تخلو من الخطورة أو ضرر الطائرات في جميع أنحاء العالم.

ومن الواضح جيداً الدلالات الحضارية والخُلقية المتضاربة بين كلتا الصورتين صورتين في بلد واحد هو روسيا، والتي تعكس ما مرت به من تحولات متسارعة مُذهلة من القيُم الثقافية في بحر ربع قرن من الزمن فقط، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، ففي حين جاءت هذه الصورة الثانية للسيدة الموظفة الفاضلة وهي منهمكة في إطعام الصقر، لتعبر عن إنجاز علمي، سواء أكانت روسيا السبّاقة إليه أم لم تكن، يحفظ سلامة الطائرات وأرواح البشر من ركابها، بل ومن هم على الأرض لو سقطت أي طائرة اصطدمت بسرب من الطيور في أعالي الجو، جاءت الصورة الأولى الخاصة بتعري صدر فتاتين على جانب الطريق السريع كوسيلة لإرغام السواقين على خفض السرعة كانعكاس لقيّم التحلل والانحطاط الخُلقي الرأسماليين في عصر ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي لم تُعرف عنه قط هذه الظواهر الخلاعية لا في ملابس الفتيات الفاقدة الحد الادنى من الاحتشام في الشوارع العامة، ولا في الافلام السينمائية والمسارح، ولا في صور الصحافة، وكانت الدعارة محظورة مطلقاً، باعتبار كل تلك المظاهر، طبقاً لفلسفة وفكر الايديولوجية الاشتراكية التي تؤمن بها الدولة السوفياتية السابقة هي مظاهر رأسمالية تحط من قيمة «المرأة الجديدة الاشتراكية» وتمتهن جسدها، هذا بالرغم مما عُرف عن قيادتها من دكتاتورية متشددة وفساد حكم إداري ومالي وبخاصة خلال العقد والنصف الأخير من عمرها.

أما فيما يتعلق بالصورتين الثالثة والرابعة، فهما تتشابهان في دلالاتهما المتضاربة، حضارياً وخُلقياً أيضاً بالصورتين الأولى والثانية. فقد جاء كبشن الصورة الثالثة لعارضة الازياء الهولندية الشهيرة الشقراء داوتسن كروس في سياق مقتضب عن قرار هيئة البريد الهولندية عن إطلاق مجموعة من الطوابع الجديدة، من بينها طابع بريدي تظهر عليه صورة هذه الفتاة وهي بلباس البحر الفاضح المعروف بـ «البكيني»، على أن تقتصر مجموعة الطوابع هذه على البريد الداخلي. ومن المعروف ان صور طوابع أوعملة أي دولة من دول العالم غالباً ما تكون معلما أو أكثر من معالمها المهمة الجميلة، وذات دلالة رمزية لهذه الدولة بيئياً وعمرانياً أو لرموز حضارية من تاريخها، أو حتى صور لقياداتها المعاصرة، كما هو الحال في دول كثيرة من بلدان عالمنا العربي والعالم الثالث عامةً، أما أن تنفرد دولة، كهولندا، بأن تجعل صورة عارضة أزياء بلباس البحر في مجموعة من طوابعها، كمعلم من معالمها الحضارية، بل وعلى أن يقتصر استعمال الطوابع على الرسائل الداخلية، مما يُرجح شعور الحكومة الهولندية المسبق بفضيحة ما أقدمت عليه دولياً بجعلها جسد المرأة معلماً من معالمها الحضارية، فهذا أمر غير مفهوم ألبتة، بل ودلالة بالغة على ما تمر به من تفسخ خُلقي حضارى كدولة رأسمالية تعبر عن أبشع صور الاستغلال الفظ لجسد المرأة كسلعة، لا سيما بالنظر لما اضطرت معه عارضة الأزياء النحيفة كروس من دور في تسويق أشهر بيوت الموضة في هولندا، بحيث تم مسبقاً استغلال جسدها وبما يتطلبه ذلك من شروط قاسية فُرضت عليها للتنحيف.

وعلى النقيض من هذه الصورة الثالثة تأتيني الصورة الرابعة المفترضة والبديعة حضارياً وأخلاقياً، ولو لم تنشر مع الخبر والمتعلق بإعلان المصرف المركزي في كولومبيا عن إصدار ورقة نقدية تحمل صورة الروائي العالمي الكولومبي الحائز على جائزة نوبل العالمية غارسيا ماركيز، وقيمة هذه الورقة النقدية تعادل 17 دولاراً، كما جاء في سياق الخبر. أكثر من ذلك فقد حرصت الحكومة الكولومبولية على تنظيم مراسم لبدء تداول هذه العملة في مدينة «سانتا مارتا» على البحر الكاريبي والقريبة بمسافة 80 كلم من بلدة «اراكاتاكا» مسقط الروائي الكبير في شمال البلاد، والذي رحل عن عالمنا قبل عامين ونيّف عن 87 عاماً، كرّس جُل حياته السياسية والثقافية والصحافية والأدبية، مُثقفاً وصحافياً وروائياً لخدمة شعبه وشعوب أميركا اللاتينية، وعلى الأخص الفقراء المضطهدين والمهمشين، ونال جائزة نوبل بكل جدارة واستحقاق لم يختلف اثنان من أدباء العالم على هذا الاستحقاق، وتُرجمت رواياته إلى عشرات اللغات في العالم واُعيدت طباعتها مرات كثيرة.

وهكذا فمن المفارقات الساخرة انه إذا كانت هولندا سبقت دول العالم بتفردها، على الأرجح، بوضع طابع رسمي بريد لفتاة شبه عارية، فإن كولومبيا هي أول دولة في العالم، على الأرجح، تصدر ورقة نقدية تحمل صورة قامة عالمية مثقفة وأديب عبقري كبير من مثقفي واُدباء عصرنا. وإذا كانت الاُمم حضارات، فإن الحضارات أيضاً لا تكتمل نضارتها وتقدمها إلا بفلسفاتها وقيمها الأخلاقية والسامية، وصدق شوقي في بيته «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا» .

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5124 - الجمعة 16 سبتمبر 2016م الموافق 14 ذي الحجة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:09 ص

      زيّنتَ الوسط اليوم بإبداعك، شكرًا لك على خطّته أناملك.

    • زائر 1 | 10:39 م

      راااااائع جدا المقال استاذ رضي.. ويستمر هذا القلم المعطاء في نشر الفضيلة والثقافة..

اقرأ ايضاً