العدد 5150 - الأربعاء 12 أكتوبر 2016م الموافق 11 محرم 1438هـ

 المجانين الجدد

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

غابرييل إينستن هي عارضة أزياء بريطانية عمرها 24 عاماً. مَنْ يُتابعون حسابها على الانستغرام بلغ تعدادهم 700 ألف. هي تقول إن كل صورة «سيلفي» تضعها تُكسِبها «أكثر من مقابل 4 أيام من العمل المتواصل». فهي تتلقى مجوهرات وثياباً ورحلات من المعجبين بها.

في الغرب (وربما في الشرق) عادة ما تبحث الشركات عن أصحاب الحسابات الذين يفوق تعداد متابعيهم 100 ألف؛ حيث تستخدمهم في الدعاية لمنتجاتها. إحدى الفنانات الخليجيات سمعتها تقول إنها تأخذ على البوست الواحد 3 آلاف و312 دولاراً، وعلى الدعاية الحضورية 9 آلاف و937 دولاراً.

أمام هذه النماذج «المغرية» والجدلية للكسب من «السيلفي» يظهر لنا عالم آخر ليس فيه سوى المآل الحزين المبكي. هل تتذكرون كورتني سانفورد؟ إنها الفتاة التي أخذت لقطة «سليفي» وهي تقود سيارتها ونشرتها على صفحتها على الفيس بوك في تمام الساعة الثامنة و33 دقيقة. بعدها اصطدمت بشاحنة اشتعلت بسببها النيران في سيارتها فتوفيت، بينما لم يُصَب سائق الشاحنة بأي سوء.

وهل تتذكرون الفتاة الروسية آنا كروبينيكوفا التي حاولت أن تلتقط «سيلفي» في عيد ميلادها، لكنها سقطت من فوق الجسر في موسكو لتلقى حتفها؟! أم تلك الطالبة العشرينية الحسناء، التي سقطت من جسر بيونتي دي تريانا جنوب إسبانيا وتوفيت بعد أن حاولت التقاط «سيلفي»؟ أو ذلك الشاب المكسيكي (أوسكار أوتيرو) الذي قتل نفسه وهو يهمّ بتصوير «سيلفي» بعد أن حشا بندقية بالذخيرة خطأ، ظنّاً منه أنه سيستخدمها بنجاح في تلك اللقطة؟! والقائمة تطول.

قبل أيام قرأت خبراً في «رويترز» مفاده أن رجلاً هنديّاً اسمه أشوك بيشنوي قام بالتقاط صورة «سيلفي» مع ثعبان في ولاية راجاستان بشمال غرب الهند، إلاّ أن ذلك الثعبان لم يُمهله حتى منحه عضّة سامة! ولا يعلم المرء كيف يُفسِّر مثل هذه المواقف، وهل هي ضرب من الجنون أم من «كثرة الفراغ».

في جانب آخر، من غرائب «السيلفي» هو التصوير وفق نظرية «كيفما اتفق». بمعنى، أن البعض يقوم بتصوير الغث والسمين، اللائق وغير اللائق، المجاز وغير المجاز، الخاص والعام بطريقة لا تُوصف. ولو أراد أحدٌ أن يُخرَج لصاحب ذلك الحساب أو ذاك مونتاجاً عن يومياته بدون إرادته ورغبته لأمكن وبكل سهولة مع وجود وتوافر كامل خصوصياته وأعماله التي يقوم بها كل يوم.

قبل فترة وعن طريق الصدفة، وقفت على أحد الحسابات التي آلمتني كثيراً. فصاحبه يلتقط صوراً بدون حساب ولا تقدير ولا تقييم! كان يصوِّر والده الكهل والمريض وهو مسجًّى على سرير المرض، بكل ما تحمله هيئة الشيخوخة من أشكال خارجة عن إرادته، دون أن يُدرك ذلك الابن أن مثل تلك الصور «قد» تقود المتطفلين أو عديمِيْ الذوق إلى أن يستخدموها في السخرية وتداولها دون إذن.

صور لمرضى ولأشخاص كبار وصغار، بعضهم بلا ملابس إلاّ القليل منها بالكاد تغطي جزءًا من أجسامهم، وصور لأشخاص لم يكونوا ليعلموا «قطعاً» بأن عدسة الكاميرا ستلتقط لهم صورة في غفلة من أمرهم، فتركوا تعبيرات وجوههم بلا حساب، لتظهر هيئتهم بطريقة ساخرة! إنه لأمر محزن فعلاً أن تصل بنا الأمور إلى هذه الدرجة.

بالطبع فأنا لا أتحدث عن بقية الصور التي تحكي أحداثاً يومية بكل تفاصيلها الخاصة، ذهاباً وإياباً ومتى حصل ذلك وكيف حصل وأين حصل ولماذا حصل ومع مَنْ وماذا جرى بعده وكل أسئلة الخبر، فذلك تحصيل حاصل، لكن المصيبة هي في الاستيلاء على خصوصية الآخرين، حتى ولو أُعلِموا بعد ذلك، إلاّ أن لحظة الصورة لم تكن بإرادتهم حتماً وإلاّ لما ظهروا بتلك الهيئة!

إن «ولائم الصور» الغثة لن تفيد أحداً، فهي لا تعكس علماً ولا نُصحاً ولا براءة ولا حساً إنسانياً بل ولا حتى فكاهة مُجازَة، وهو ما يجعل المرء أن يتنبّه في كيفية تعاطيه مع وسائل التواصل الاجتماعي بالطريقة التي لا تُحوِّل تلك الوسائل من خادمة لنا إلى سيف مُسلّط على ذوقنا العام.

لقد حمل البعض حياته التي كان يعيشها ما قبل تلك الوسائل الجديدة إلى حيث ذلك التطور، دون أن يُغيِّر من حياته شيئاً، بل زادها سوءًا وتخلفاً، فأصبح الهراء الذي كان يُقال في مجالس «قتل الفراغ والقيل والقال» وبين أربعة جُدُر يُبَث في عالم افتراضي واسع، يبدأ من استراليا جنوب الشرق حتى ألاسكا شمال الغرب، ومن كابو دي في هورنوس جنوب الغرب إلى جوسينايا شمال الشرق.

هذه نكسة ثقافية واجتماعية بتنا نعاني منها، تضاف إليها آلاف من صور النكسات الأخرى، التي فرضتها العقول المريضة في جوانب أخرى من الابتذال، سواء بالترويج للترف وإهانة الفقراء به، أو بإشاعة التعصب أو الخرافة أو التنابز المذهبي المريع، لا يُخفف من وطأتها سوى بَلْسَم العقل الذي لايزال كثيرون متشبثين به، مُحوِّلين بقية الساحات الموبوءة إلى نشاز مفضوح.

فهناك حسابات مبدعة عندما تتابعها تشعر أنك تتلقى «تنبيهات» إنسانية كلما حاول الزمن أن يفرض عليك النسيان، أعادتك إلى حيث ما يجب أن تكون عليه. صور مبدعة وكلمات رائعة تفتح في نفسك «ملف المراجعات». مراجعة النفس والأفكار والقناعات، وكأنك أمام مُعلِّم يُملي عليك مبادئ العلم الأول، لتصيغ نفسك من جديد، وتكتشف حياتك بطريقة أخرى.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5150 - الأربعاء 12 أكتوبر 2016م الموافق 11 محرم 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 4:24 ص

      هذه هي عقلية البشر المتخلفين أحدى الطبيبات في بعثة الحج البحرينية بدل أنعاش المريض قد يكون بأخر رمق بالحياه ويحتاج لنفس ينقذه تطلب تصوير سيلفي لعلها تفوز بأكثر عدد من المتابعين تفاهه لأخر حد

    • زائر 5 | 1:58 ص

      مع الاسف بسبب العقلية التي اشرت اليها فان قليلون من سيقرؤن مقالك. لان التفكير و البحث فقدا من قاموسنا. لكن و ارضاء لنفسك و احتراما لمستوي تفكيرك و خدمة لوطنك و مواطنيه ، أرجو و ادعوك ان تستمر في كتاباتك هذه.

    • زائر 4 | 1:58 ص

      مقال يستحق القراءة ومراجعة الحسابات
      صدقت بتسميتك لهم بالمجانين الجدد

    • زائر 3 | 1:38 ص

      الجهل والوقت الضائع وما يصنع بالناس

    • زائر 2 | 12:37 ص

      كعهدي بك جميلا فيما تتناول بتلك الحاسة التي نكاد نفتقدها في عالم اليوم. أن تتبصر لا أن تبصر فحسب. جعفر الجمري

    • زائر 1 | 11:38 م

      موضوع رائع ..
      ما هي الحسابات التي تحب متابعتها أستاذ محمد ؟
      منكم نستفيد

    • زائر 6 زائر 1 | 3:00 ص

      وتبقى القهوه مذاقا يجمع بين المر والحلو ورشف آخر القهوه هومايتطلع اليه شاربها
      علني في توصيفي لمقالاتك وجدت ضالتي ..
      المزيد من الابداع يزيدنا متابعه ..موفق لكل خير ..

اقرأ ايضاً