العدد 5150 - الأربعاء 12 أكتوبر 2016م الموافق 11 محرم 1438هـ

نداء

مهدي عبدالله comments [at] alwasatnews.com

.

ينشقُّ الغبار وينبثق الحاج عبدالرسول. رجل أسمر عرَكته السنون ورسمت تجاعيدها على محيّاه. على دابته الأليفة يأخذني بين حضنه، يلكزها بخفة فتنطلق متمايلة يمنة ويسرة. تخالجني سعادة غامرة في هذه الرحلة القصيرة شاعراً بأنني الذي أمتطي الدابّة وأسوقها، مطيعة وصبورة هي، لا تشكو من خدمة صاحبها الذي يمضي بها إلى أحياء المنامة صباح كل يوم ولا يعود قبل أذان الظهر.

يأخذني إلى مطلع الشارع العام على الطريق الترابي المختلط بالحصوات الناتئة وبقايا الأطعمة والزجاجات ثم يعود بي وينزلني على باب البيت وأنا في غاية الفرح. يستخرج من جيب ثوبه أربع آنات ويناولني إياها فأزداد فرحاً وحباً، ويواصل سيره على دابّته طلباً للرزق، طائفاً الأزقة والطرقات ومنادياً بأعلى صوته: «بقل ورويد... بقل وبربير»، فتخرج النساء من بيوتهنّ ويشترين ما يلزمهنّ.

يرتدي الحاج عبدالرسول غترة بيضاء منقطة بدوائر صغيرة سوداء تشبهاً بمن ينتمون إلى بيت رسول الله وحينما تناديه النسوة بـ «سيد» يشعر بالغبطة والاعتزاز. يتوغل في أحياء المنامة ويتشعب في دهاليزها، في الجو القارس والسماء الممطرة وفي الطقس الملتهب والرطوبة الخانقة، إلى أن ينتصف النهار أو تبدأ الدابة في المشاكسة، فيأخذ طريق العودة. حينها أكون منتظراً على الباب فيعطيني بعض اللوز السكندري والكنار ويتجه إلى الدالية ليعقل دابته.

يغتسل من لهيب القيظ ومشقة المسافة التي قطعها تحت وهج الشمس ثم نتناول الغداء وبعدها يخلد إلى قيلولة تمتد إلى ساعتين أو نحو ذلك.

يتوجه إلى الدالية ويروي الشروب المزدانة بالفجل والبربير والبقل ويسقي النخلات والفحاحيل كما يقوم بتنفيع الحمار المخلص والبقرة الوفية بينما تبادر أمي بحلبها. ليست لدينا ساقية كبيرة كباقي الدواليب لكننا نملأ حوضاً صغيراً عرضه خمسة أقدام والذي يكفي لري الدالية. في العصر أتجوّل في أنحائها ولا أنسى زيارة نخلتي المسماة «نخجيّة» لصغر رطبها كما لا أنسى هز أغصان الكنارة القريبة من الحوض، على رغم نهْر الحاج وتنبيهه إلى أن الكنار لم ينضج بعد. أستمتع بزقزقة العصافير التي تملأ هذه الشجرة وقت الغروب وأنا أطالع في كتابي المدرسي أو أحفظ نشيدة مقررة. ومع صوت الأذان نقفل عائدين إلى البيت غير البعيد قبل أن نذهب إلى المسجد.

ها أنت يا حاج في كامل عنفوانك وكامل حلّتك، على رغم أنني لم أنس حتى الآن محنة مرضك الذي راح يتمكن منك شيئاً فشيئاً. ربما كان فقدانك البصر أشد مصيبة ابتليت بها وقد أدّى إلى ملازمتك الغرفة، كنت أشاركك هذه الغرفة «المجلس» لأنك تخاف النوم وحدك وكنت تشعر بالوحشة والوحدة. ثم بدأت علامات الحزن والأكل النهم والأمراض المصاحبة فنقلناك إلى المستشفى، لكن صحتك تدهورت بسرعة وكنا نحس بأنها أيامك الأخيرة لكننا لم نجرؤ على الحديث عن النهاية.

لم أذرف الدموع حينما اتصلت بي الممرضة تعلن عن رحيلك، لكنني حينما ذهبت لإبلاغ أمي بالخبر، جهشت بالبكاء ورحت أنتحب بحرقة كطفل صغير فقد لعبة عزيزة.

مضت سنون وصورتك لا تزال في مخيلتي كلما دخلت هذا البيت الذي فقد معالمه وكلما أطللت على الدالية التي لم تعد دالية. هذا هو الحمار الصلب الذي تمتطيه وتأخذني بين حضنك على ظهره، وهذه هي البقرة الوفية لم يجف ضرعها، وهذه هي النخجيّة ممتلئة بخيرات الرطب. لكن لماذا جئت لي في هذه الليلة الحالكة؟ لماذا تبتسم لي وتناديني؟

إقرأ أيضا لـ "مهدي عبدالله"

العدد 5150 - الأربعاء 12 أكتوبر 2016م الموافق 11 محرم 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً