العدد 5152 - الجمعة 14 أكتوبر 2016م الموافق 13 محرم 1438هـ

كان يُحسِن إلينا

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ما سأرويه قصة حقيقية وقعت في أحد السجون. يقول الشيخ عبدالفتاح مورو، أحد قيادات حركة النهضة التونسية، إن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، قرَّر أن يضرب الإسلاميين في تونس، فتم اعتقال جمع كبير منهم ممن كانوا منضوين في تيار الاتجاه الإسلامي كما كان يُسمَّى. ومن بين مَنْ ألقِيَ القبض عليهم مورو نفسه. حرَّك ذلك الاعتقال وظروفه «النخوة» عند أحد الصحافيين التونسيين البارزين وهو الحبيب شيخ روحه (1914 - 1994) كي يتوسّط في قضية الشيخ.

كان الحبيب شيخ روحه شخصية وطنية تونسية بارزة، فضلاً عن كونه صحافياً مرموقاً، وأحد مؤسسي دار الصباح قبل 65 عاماً. وكانت تربطه علاقة أخوية بالسيدة وسيلة بورقيبة سيدة تونس الأولى آنذاك. فتحدث معها على أنه لا يليق بالرئيس أن يفعل بشخص مثل عبدالفتاح مورو (التي كانت تعرفه هي أيضاً، وحضرت إحدى خطبه وهي متنكرة كي لا يتفطن لوجودها أحد) هكذا، فتقرَّر أن يُنقل مورو من محبسه إلى مكان خاص يليق به وبالتوصية التي جاءت بحقه.

كان هناك سجانٌ يُوزِّع الطعام على المعتقلين السياسيين. وكان كل معتقل مُزوَّد بصحن يُقدِّمه للسجَّان فيُوضع له فيه الطعام. فُتِحَ الباب على مورو وأخذ السجّان يرمقه ولسانه يَهْذُر بالشتيمة ويقول: «يا كلاب... إن بورقيبة سيمحقكم»، لكن الرجل في ذات الأوان الذي يشتم فيه كان يشير بيده إلى مورو كي يتقدم نحوه، وكأنه يُمثِّل في الشتيمة ليسمعه زملاؤه الشرطة فقط.

لقد كان يقول كلاماً لكنه يفعل فعلاً مضاداً. وعندما اقترب منه قال السجَّان له بهمس: «الله ينصركم والله يعينكم»، على رغم أن مورو لم يكن يعرف السَّجان أصلاً، وكان على هذا الحال طيلة وجود مورو في الحبس. وَوُجِدَ غيره كذلك من السَّجّانين الذين كانوا يشتمون ويسبّون ولكن للتمويه فقط، إلاّ أنهم وحين يظفرون بلحظة خلاء معه كانوا يُقبّلون يديه ويقولون: أنتم أحبابنا. وكان مورو يُعقب على ذلك بأنه لم يشعر بدفء الحياة إلاّ مع هؤلاء السَّجّانين الصادقين.

أذكر حادثة أخرى ولكن من التراث ذكرها الطبري. يقول عندما هَزمَ القائد العباسي حيدر بن كاوس الملقب بـ الأفْشِين جيش بابك الخرمي، أمر الناس أن يقفوا صَفَّيْن. وجيء إلى الأفْشِين بنساء وصبيان كُثُر ذكروا له أن بابك الخرمي كان أسرهم وأنهم أحرار من العرب، فأمر الأفْشِين أن يُجهَّز لهم مكان كبير أسكنهم فيه «وأجرى لهم الخبز وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم حيث كانوا، فكان كل من جاء فعرف امرأة أو صبياً أو جارية وأقام شاهدين أنه يعرفها أو أنها حرمة له أو قرابة دفعها إليه، فجاء الناس فأخذوا منهم خلقاً كثيراً وبقي منهم ناس كثير ينتظرون أن يجيء أولياؤهم».

ثم جيء بـ بابك الخرمي أسيراً فصار يمشى بين الصَّفَّيْن. «فنظر إليه الأفْشِين ثم قال: انزلوا به إلى العسكر فنزلوا به راكباً» فلما نظر النساء والصبيان (العرب) إلى بابك الخرمي وهو يمر بجانبهم «لطموا على وجوههم وصاحوا وبكوا حتى ارتفعت أصواتهم، فقال لهم الأفْشِين أنتم بالأمس تقولون أسرنا واليوم تبكون عليه؟ عليكم لعنة الله! فـ قالوا: كان يُحسن إلينا»... دققوا فيها.

الحقيقة، أن التمعّن في مسألة وحوادث «الإحسان» تمنحنا قدرة على زِنَة الأفعال ونتائجها. ليس الإحسان بالمال وإنما بالفعل القائم على اللين والعطف؛ فـ لفظة الإحسان جاءت كـ ضد الإساءة، وبالتالي فهي مقرونة بالفعل الأوسع. وقد بيَّنت حوادث التاريخ أن التعامل بالجور أقصر من التعامل بالإحسان. وأن أوضاع الإنسان والأمم تكون أكثر استقراراً بالإحسان منه بالجور والإساءة.

ويوم هنيء سعيد واحد أفضل من عام شقاء. والهناء يُورث مدى وشكراً أطول، بينما العكس في الشقاء، الذي يفضي إلى الاحتراب وتنمو الجريمة، وتستعر الضغائن، ويعمّ الفزع. حصل هذا في تجارب كثيرة.

في لحظة تاريخية ما قد يجد مَنْ كان جبروتاً مقتدراً نفسه في موضع ذليل مهين: بلا رهط ولا أدوات يبطش بها، وهو يقف أمام مَنْ آذاهم! تُرى ما الذي سيسمعه ويلقاه في تلك اللحظة، والجميع شاهرٌ سيفه أمامه يطلب حقاً مضيّعا؟! هذا الأمر ليس فيلماً «هوليودياً» بل هي أحداث سجّلها التاريخ وبنى عليها. ليس التاريخ البعيد بل حتى المتوسط. والسعيد مَنْ اتعظ بغيره.

هذا الأمر ينسحب على كل مَنْ كانت له مساحة من التأمُّر في عائلة أو عمل أو دولة أو وجاهة اجتماعية. وكلما زادت مساحة ذلك التأمُّر زادت معها مساحة المسئولية والحذر، وضرورة توخي العدل.

أختم بقول لـ الإمام علي بن أبي طالب: وأشعِر قَلبَكَ الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بالإحسان إليهم، ولا تَكونَنَّ عليهم سَبُعاً ضارِياً تغتنم اُكلَهُم؛ فإنهم صِنفان؛ إمّا أخٌ لك في الدّين، وإمّا نَظيرٌ لك في الخَلق، يَفرط منهم الزَّلَل، وتَعرِضُ لهم العِلَل، ويُؤتى على أيديهم فِي العَمدِ والخَطَاَء، فأَعطِهِم من عَفوِكَ وصَفحِكَ مثل الذي تُحِبّ أن يعطيك الله من عَفوِه.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5152 - الجمعة 14 أكتوبر 2016م الموافق 13 محرم 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 5:11 ص

      مقال رااائع
      حقا من الضرورة قراءة التاريخ

    • زائر 4 | 1:29 ص

      (إمّا أخٌ لك في الدّين، وإمّا نَظيرٌ لك في الخَلق)
      لا يعتبرونا إخوة لهم في الدين فيعاملوننا معاملة الإخوّة الدينية وايضا لا يعتبروننا نظراء لهم في الخلق كي يعاملوننا كما يعامل بني البشر بل أقول ولا يعتبرونا مواطنين فيعاملون باحترام المواطنة ربما يقول البعض نحن نبالغ لكن بنظرة بسيطة حين يعتقل اجنبي في البحرين هل يعامل كما نعامل نحن هل يمكن ان يعتقل بنفس الطريقة التي نعامل بها نحن؟

    • زائر 3 | 12:34 ص

      3 لا أعتقد أن الطرف الآخر قد ترك خيطا ولو رفيعا ليرجع منه إلى المكون الآخر فهو ما زال يزاول فعلا بغيضا أو سكوتا مخزيا على ما يجري على أرض الواقع .وقد ترك المكون الآخر فريسة لتجاوز القانون أو تحت اسنة سيوف المتلقين والمتزلفين والمطفأنين. إلا من رحم الله.

    • زائر 2 | 12:29 ص

      أنا دائماً أحرص أن لا يفوتني عمود الأستاذ محمد عبد الله. كيف تحضر لكل هذه المواضيع الكثيرة و المتشعبة بهذا الجمال و بهذه الإضافة المعرفية من شواهد التاريخ و غيرها؟ وخصوصا أني أعاني من مشكلة الذين لا يعرفون إلا في تخصصهم، و لايقرأون إلا في تخصصهم و مجال آخر أحبه. شكرًا على قلمكم.

    • زائر 5 زائر 2 | 3:47 ص

      قارئ جيد ويفيد الناس

    • زائر 1 | 10:43 م

      السلام عليك يا أبا الحسنين

اقرأ ايضاً