العدد 5183 - الإثنين 14 نوفمبر 2016م الموافق 14 صفر 1438هـ

ترامب... والأزمة الخُلقية للرأسمالية الأميركية

رضي السماك

كاتب بحريني

في أحد مسلسلات الممثل الكوميدي الكويتي عبدالحُسين عبدالرضا القديمة، يقوم بحضّ أحد أصحاب المحلات التجارية المتواضعة بعد بوار تجارته، على خوض الانتخابات النيابية للخلاص من إفلاسه، محفزاً إياه بضخامة الراتب الشهري الذي يتقاضاه النائب البرلماني، ومعدداً له المزايا والامتيازات الأخرى، وعلى رغم انعدام أي مؤهلات تؤهله ليكون نائباً، إلا أنه وهو مشدوه لهذا الاقتراح المغري جداً، وافق على أن يجرّب حظه، ولم يأتِ هذا الموقف الكوميدي من فراغ، فقد بدت حالات وإن كانت محدودة تتشكل حينذاك على مسرح الحياة السياسية الانتخابية، لكنها ربما تزايدت في العقود اللاحقة في الكويت؛ بل وفي كل بلداننا العربية التي عرفت تجارب ديمقراطية، وإن كانت هذه الظاهرة عُرفت تاريخياً منذ بواكير التجارب الديمقراطية، ولا سيما في مصر والعراق إبان وقوعهما تحت الاحتلال الانجليزي، حيث يلعب كل من المال السياسي، والفزعات الانتخابية العشائرية والقبلية والطائفية والمناطقية دوراً في إيصال نوّاب جهلة في السياسة، أو أنصاف أميين بل وحتى أميين إلى قبة البرلمان.

كما شهد تاريخ الانتخابات البرلمانية في دولنا العربية مرشحين، ينتهزون فرص المقاطعة الانتخابية لقوى وأحزاب مؤثرة، وعزوف كبير للناخبين عن المشاركة، فيفوزون ولو بأصوات بضع مئات دون أن يكونوا مؤهلين بالمرة لعضوية البرلمان .

وتشبه حالة من يجرّب حظه في «ياناصيب» بازار الانتخابات النيابية، على شاكلة التاجر المفلس الكويتي الأمي أو شبه الأمي في المسلسل الكويتي، مع بعض مرشحي الانتخابات الرئاسية الأميركية، والفرق بين الحالتين، أن المرشح الانتهازي الأميركي ينزل في غمار السباق كمليونير، أو ميسور الحال، ومسنوداً بجيش من الممولين الظاهريين والخفيين (رجال أعمال كبار، ومؤسسات مالية واقتصادية كبرى) أو ملياردير كحال ترامب، وإن كانت خلفياتهم ومؤهلاتهم التعليمية أفضل من النماذج الانتهازية الكويتية أو العربية عامةً.

وتكاد هذه الظاهرة في طريقها للتشكل على الساحة السياسية الأميركية، بعدما شهدنا أكثر من نموذج، وإن بدرجات متفاوتة في المستوى، يفتقر للتأهل السياسي والقيادي لرئاسة البلاد، وذلك منذ انتهاء الحرب الباردة بزوال الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينات، ولعل أشهرهما في الضحالة السياسية والثقافة العامةجورج بوش الابن، والرئيس المنتخب أخيراًدونالد ترامب.

لذلك لم يكن غريباً أن يوظف الأخير كل مهاراته في بذاءة اللسان والقذف والشتائم، ليس ضد منافستههيلاري كلينتون فحسب؛ بل وضد أعضاء في مجلس الشيوخ ونواب ووزراء وأجهزة حكومية حسّاسة وحكومات وقادة دول، وهي تجاوزات تقع تحت طائلة القانون في أكثر دول العالم وبخاصة دولنا العربية، فكأن ترامب كمن استخدم كل أسنانه ونشب بكل أظفاره في لحم خصمه للفوز بالسباق متجاوزاً كل الخطوط الحُمر الخُلقية، وربما القانونية المتعارف عليها دولياً، للفوز بأي طريقة وبأي ثمن، وكان له ما أراد.

وإذا كان فلتان لسان ترامب في حملته الانتخابية، تعكس سيرة شخصيته المجونية اللهوية، التي اعتذر مرات عن جوانب منها خلال الحملة، فإنه لا يمكن التنبؤ والحال كذلك بأن يتحوّل إلى النقيض بعد دخوله البيت الأبيض. فالدافع الأساسي لترامب كشخصية سطحية غارقة في الملذات بكل أنواعها ليس لخدمة وطنه أو شعبه، بل هو لتنمية ثروته بأي طريقة من خلال السلطة والنفوذ. ولا يُتوقع أن يتخذ سياسات ضد مصلحة طبقته، لكن ترامب لم يأتِ من فراغ، فهو الابن الشرعي والرمز النموذجي لما بلغته الرأسمالية الأميركية في طورها المتعولم المتوحش، من عفن وانحطاط وتدهور خُلقي مُتجرد من كل قيود القيّم والمبادئ التي قامت عليها الثورة الأميركية، حتى باتت الولايات المتحدة اليوم تعيش مفارقة مُدهشة، فهذه الدولة العظمى التي تفردت في كل شيء من تقدم علمي وتكنولوجي مكنها من صنع وإنتاج كل ماهو مُميز من منتوجات مادية، أضحت عاجزةً اليوم عن صنع وتأهيل رؤساء جديرين باسمها ومكانتها كأقوى قوة عظمى في العالم!

فأينها من تلك النماذج التاريخية المُشرفة التي عرفتها مؤسسة الرئاسة سواء من حيث المُثل أو حتى كفاءة القيادة؟ بدءاً من الرئيس الأولجورج واشنطن، ومروراًبإبراهام لنكولن المحارب العنيد ضد الرق، فوودور ويلسون الذي نادى بحق تقرير المصير للشعوب، فروزفلت الذي رفع شعار «لنجعل من الولايات المتحدة ترسانة عظمى للديمقراطية»، فأيزنهاور الذي اتخذ موقفاً مناوئاً للعدوان الثلاثي على مصر، وحذّر في نهاية حكمه من خطورة تأثير سطوة المجتمع العسكري على الديمقراطية، وليس انتهاءً بالرئيس المغدور جون كيندي الذي بحنكته توصل مع الاتحاد السوفياتي الى مخرج يُجنّب العالم من حرب نووية، إبان أزمة نصب الصواريخ النووية السوفياتية في كوبا 1962.

لقد باتت قوى المصالح المتضاربة في الطبقة الحاكمة الأميركية تتعامل مع مؤسسة الرئاسة كمؤسسة أو شركة تجارية كبرى، لا كأخطر مؤسسة سياسية رسمية في البلاد يفترض أن يتولاها سياسيون محنكون أكفاء، بغض النظر عن هُوياتهم السياسية، فلا تتورع أن تدفع إليها عديمي الكفاءة، أو لا يتوانى واحد من هؤلاء عن ترشيح نفسه وكأن مؤسسة الرئاسة أضحت مجرد شركة كبرى، بحاجة إلى مدير يتمتع بقليل من الثرثرة السياسية التي يمكن تدريبه عليها، وباتت الرأسمالية الأميركية في أزمة إفلاس سياسي فكري وخُلقي معاً.

وإذا كان الرئيس لنكولن قال في زمانه: «إن بيتاً منقسما على نفسه لن يستطيع البقاء، وإنني أعتقد أن هذه الحكومة لن يُكتب لها استقرار أو بقاء، ما دام نصفها أرقاء والنصف الآخر أحرار»، فإن بوادر هذا الانقسام الجديد لاحت في الأفق بين الأرقاء الجُدد من المهمشين اجتماعياً والمهاجرين والسود من جهة، والطبقة الحاكمة من جهة أخرى، بل وظهر في صفوف هذه الطبقة بوادر الانقسام نفسها، كما تجلى في الصراع الانتخابي العنيف الأخير.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5183 - الإثنين 14 نوفمبر 2016م الموافق 14 صفر 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً