العدد 5194 - الجمعة 25 نوفمبر 2016م الموافق 25 صفر 1438هـ

الطَّبْل والقلم

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الطَّبْل هو الذي «يُضرب به، وهو ذو الوجه الواحد والوجهين». والطَّبَّال هو «صاحب الطَّبْل». أما ما يقوم به من فعل فيُسمّى «التَّطْبِيل، وحِرْفته الطِّبالة». وقد سُمِّي صوت الطَّبْل بـ الدرداب. هكذا ورد في قواميس اللغة. أما القلم، فهو الذي يُكتب به، وجمعه أقلام وقِلام، وجمع الأقلام هي أقاليم كما عرّفته أمهات الكتب. وقد زِيْدَ في منزلة القلم لأهميته للبشر. ويكفي أنه وَرَدَ في القرآن الكريم، حتى قال الطبري في تفسيره إن القلم «نعمة من الله عظيمة، لولا ذلك لم يَقُمْ ولم يصلح عَيْش».

وقد يسألني سائل: ما هي المناسبة أو الصِّلة بين الطَّبْل والقلم كي تذكرهما معاً؟ وهو سؤال جيد. وربما تأتي إجابته من الواقع الملتبس وليس من عندي «أساساً». فما نجده اليوم هو أنه وعلى رغم الفرق الشاسع بين الطَّبْل والقلم، إلاّ أن البعض قام بخلط الأمرين معاً، بحيث جعل القلم طبلاً يُظهِر أصواتاً تناسب الدَّف، وليس العلم والتعليم والتوجيه. لذلك، بتنا نرى طبولاً على هيئة أقلام لا أكثر. فشكلها قَلَم، لكن ما تُنتجه لا يتعدى أصواتاً مُعادة أو في أحسن الأحوال تتكرر أصواتها كل 5 حركات ذهاباً وإياباً، لكن دون أن تُضيف في الوعي والعقل حرفاً واحداً.

مِنْ هنا نجد «الأقلام» المنتفخة من «التطبيل» لا تستطيع أن تُنتِج إلاّ الأصوات التي يُخرجها الطَّبْل، دون أن تُغيِّر أو تحيل أو تُقدِّم أو تؤخِّر أو تُشذِّب؛ لأنها أسيرة لحالة واحدة. لذلك هي تحوم على ذات الشيء دون أن تبرحه، وكأنها تُسمِّي السَّيْف بذات أسمائه الأخرى كـ إبْرِيق وإِصْليت وأصْمَعِي وإفْرنْد وأَنِيْث وباتِك وبارِقة وبتَّار وبَتُوك وحُسام وسُراط وصارم وصِمْصَام ومُهنّد، دون أن تضيف شيئاً على ذلك السيف! لذلك فهي تلوك الكلام ذاته والأفكار ذاتها؛ لأنها لا تعرف سوى التكرار بذات المنسوب كضرب الطّبْل تماماً.

وحتى عندما تريد التغيير في مجرى القلم بُغية النقد، فإنها لا تنتقد بل تزايد على صوت تطبيلها والحماسة في إخراجه، فبدل أن يكون 10 ضربات في الدقيقة يصبح 50 ضربة، وهكذا دواليك. وهو ما يجعلها خارج حتى المعزوفة الموسيقية ذاتها بل وتُفسدها، بعد أن تضطرب حركة ومكانة الآلات العضوية من صوت وتصفيق وآلات النفخ من ناي وبوق، والآلات الوترية من عود وقيثارة وكمان فضلاً عن الأورغ.

إنه لمن السخرية حقاً أن يصبح هؤلاء مُنظِّرين لأحوال الناس يُحدثونهم بالهذيان بشأن الوطنية والحقوق والواجبات، وما يجب أن يكون وما لا يكون، ويدّعون تعليمهم ولكن عبر الطبول وليس الأقلام الحرة النافعة التي يتمنى المرء أن يكون منتمياً إليها. عندما أقف على واحدة من تلك الأقلام أتذكر قول الجاحظ بشأنها حين يصفها بالكذب والعُجْب والقذف رغم ركاكة ما لديها فقط لأنها «وطأت مقعد الرياسة، وتورّكت مشورة الخلافة، وحجزت السّلّة دونها، وصارت الدواة أمامها، وحفظت من الكلام فتيقه، ومن العلم ملحه» كما يشير. وهي من أشد مآسي الأمة.

الكتابة التي لامست شغاف الشاعر الانجليزي الكبير روبرت براوننغ فجعلته كاتباً مرموقاً، نراها اليوم عند بعض المطبّلين كيف يُهينونها بالدّفوف، تارة للشتيمة وتارة للتزلف المغلّف بدموع «تمساحية». الكتابة التي جعلت السياسي الإنجليزي البارز جوناثان سويفت يزاحم عمله السياسي بها لمركزية تأثيرها، نراها اليوم عند البعض مجرد سفاسف ضاحكة! والكتابة التي جعلت المخترع الشهير توماس بِيْن يتوق للقلم وإفاضاته، باتت عند بعضٍ لا يُقدّرها ألبتّة.

الكتابة التي دفعت الفيزيائي الألماني مُبدِع الطبيعة التجريبية جورج كريستوف لشتينبرغ لأن يمسك القلم ودواته، باتت عند هؤلاء المطبّلين مجرد قدَّاح يُوقدون به نار الفتن، ليرقصوا حولها عراة من القيم والأخلاق. والكتابة التي تألّقت بها فلسفة فولتير وريث الباسكالية خلال عصر الأنوار، صار البعض ينثر من خلالها الهراء على الناس ليبيعهم ما لا يُؤكل ولا يُشرَب غثاً وخِداعاً.

وما يزيد الحال سوءاً هو الوهم الذي بلغه أولئك من أنهم أحبار الأمة وكَتَبَتها الذين يُنيرون لها ولحكامها الدروب، في الوقت الذي هم لا يقدرون على التفريق بين الهر والبر ولا العاج والساج، فكيف بتشخيص قضايا الفكر والسياسة والأحداث الجارية، التي إن قرأوا فيها شيئاً قرأوه مقلوباً! فأيّ حال هذا الحال؟!

أتذكر قصة طريفة هنا، وهو أن أحدهم سُئِلَ وهو يقرأ إحدى الصحف: هل مِنْ أخبار جديدة؟ قال: نعم، فهذه الصورة (وأشار لهم إلى إحدى صفحاتها) تتحدث عن انقلاب حافلة ركاب وهي صورة آلمتني كثيراً. فقيل له: يبدو أنك مخطئ؛ فأنتَ تُمسك الصحيفة مقلوبة، لذلك ترى الحافلة مقلوبة وإلاَّ فهي على أتمّ حال وليس بها أي مكروه! هذا بالتحديد واقع تلك الأقلام.

وللعلم، فإنها وإلى جانب جهلها بالأمور، هي تعيش حالة من الأنانية المفرطة، حين تقدِّم مصالحها على مصالح الأمة؛ لأنها منتفعة من الحال الذي تُطبّل له، ولا يريدون له أن يتغيّر أو يتبدل. وربما الأحداث سابقها ولاحقها كشفت هؤلاء، وما علينا سوى النظر جيداً كي نرى فعلهم.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5194 - الجمعة 25 نوفمبر 2016م الموافق 25 صفر 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 12:07 ص

      طبّل المطبّلون
      واصبحوا يتراقصون
      ومن مال الشعب يشفطون
      وللحقيقة كارهون
      وللنفاق فاعلون
      وللحساب والعقاب متجاهلون
      وكأنهم بالآخرة لا يؤمنون
      يلمّعون فيما يكتبون
      يكذبون يبهرجون يلمعون
      ألا إنهم فاسدون ظالمون

    • زائر 9 | 11:56 م

      كلمات المقال لن يرفضها سوى المطبلين أما المنصفين واهل النقد البناء فانهم يقبلون هذا الكلام لانه منسجم مع الفطرة البشرية في حدودها الدنيا حتى

    • زائر 8 | 11:54 م

      اذا 13 تقرير فساد ولم يحاسب فاسدا واحد من الرؤوس الكبيرة ، ألا يغري ذلك اصحاب النفوس الضعيفة ان يسلكوا طريق الطبالة... لكي يقوموا بواجبهم من شفط المال العالم خاصة وهم يرون من سبقهم وكذب وكتب واستخدم اساليب الدجل قد حصد الكثير من المال بسبب جرّات قلم قلبت الحقائق

    • زائر 7 | 11:51 م

      الوضع الفاسد في البلد هو سوق يكثر فيه المنافقون الذين يرون في التزلّف والنفاق مصدرا للارتزاق والتكسّب وان كان ذلك على حساب قيمهم واخلاقهم وعلى حساب ظلم الآخرين فهم لا يعبؤون بذلك

    • زائر 6 | 11:38 م

      حين تسخّر اموال الدول في غير مواردها سيكثر المطبّلون وحين تصدر تقارير فساد بالجملة ولا يحاسب فاسد فإن الكثير سيمتهن الكتابة من اجل سرقة اموال الشعب

    • زائر 5 | 11:29 م

      القلم أمانة وخيانته خيانة للأمانة وما يحصل من بعض المحوسبين على الكتابة هو جريمة كبرى اذ يزينون سوء العمل ويزينون الظلم والجور واضطهاد الناس فهم علاوة على ما ذكرناه اولا هم شركاء في الظلم وما يحصل للناس وسيوقفون امام العدالة الالهية يوم الحسرة ويوم الندامة

    • زائر 4 | 11:25 م

      ((وحتى عندما تريد التغيير في مجرى القلم بُغية النقد، فإنها لا تنتقد بل تزايد على صوت تطبيلها والحماسة في إخراجه، فبدل أن يكون 10 ضربات في الدقيقة يصبح 50 ضربة)) هذا هو بالضبط ما يجري عند بعض الاقلام المتزلفة والمنافقة

    • زائر 3 | 11:03 م

      والله في الصميم استاذي

    • زائر 2 | 9:56 م

      بعد في قلم يطلق عليه القلم الغدار او القلم الخائن وهذا القلم ما يكتب الا في الانتقاد ويمدح دولة ثانية حتى ولائه ليس للمكان اللي عايش فيه وهذا يعد من اخبث الاقلام الله يكفينا شر تلك الاقلام ويبعدهم عنا

    • زائر 1 | 9:41 م

      *****

      يا ما (....) كثر في بلاد العجائب ،، ....وصل لأعلى المراتب ومرفوع عنه القلم ويأخذ راحته في السب والشتم والتخوين وتوزيع الولاء والوطنيه وووو ودائما ينثر سموما وليس حبرا من قلمه.

اقرأ ايضاً